الفصل 89
كانت تلك الليلة مخصّصة لحفل العشاء الخيري الفاخر، الذي نظمته عائلة كروسبي بكل فخر وإتقان. جرى الحدث في قاعة فخمة تزينها الثريات الكريستالية، وعبق العطور الراقية يملأ الأجواء، فيما تعالت أصوات الكؤوس المتصادمة وضحكات الضيوف الرفيعة.
أعلنت العائلة أمام الحاضرين أن 10٪ من عائدات المزاد ستُخصص للأعمال الخيرية، في لفتة كريمة رحب بها الجميع… ظاهريًا على الأقل.
لكن الحقيقة التي كانت تتداول همسًا بين المطلعين، أن عائلة كروسبي لم تعد تعيش أيام المجد، وكانت تمرّ بأزمة مالية طاحنة، تُحاول التستر عليها خلف قناع السخاء والعمل الإنساني. الجميع في محيط السيد كروسبي الأب كانوا يعلمون أنه يملك شغفًا قديمًا بجمع المقتنيات النادرة والثمينة. وقد ظل هذا الشغف ملازمًا له منذ شبابه، حتى تحوّل منزله إلى ما يشبه المتحف الصغير.
لذا، حين أعلن عن إقامة هذا المزاد تحت عباءة العمل الخيري، علم الجميع – دون أن يصرّح أحد – أن هذا الحدث ليس إلا محاولة لتسييل بعض الكنوز المخفية في خزائنه، لكن أحدًا لم ينبس ببنت شفة. الصمت كان جزءًا من قواعد اللعبة في هذه الأوساط.
ولأنها فرصة نادرة لرؤية ما لا يُعرض في العادة، سارع كثير من الضيوف لقبول الدعوة، حتى من لم يكن في جيبه ما يكفي للمزايدة. البعض حضر بدافع الفضول فقط، خاصة بعد انتشار شائعة أن “منزل الهاشمي” الأسطوري، أحد أهم العقارات العائلية، سيكون من بين المعروضات للبيع.
وصلت نوران بصحبة صديقتها ليان في الموعد المحدد. وقبل أن تخرج من السيارة، أخرجت ليان رأسها من النافذة وألقت نظرة على المكان الصاخب بالأضواء والسيارات الفارهة، ثم قالت بحماسة:
“اصعدي الآن، سأوقف السيارة وألحق بكِ. احجزي لي مكانًا في الصف الأمامي، لا أريد تفويت أي شيء!”
ضحكت نوران وقالت:
“حسنًا، لكن لا تتأخري.”
رغم أن ليان لم يسبق لها حضور مناسبات بهذا المستوى، كانت تعتقد أن بإمكانهما ببساطة اختيار مكان والجلوس فيه. لكنها لم تكن تعلم أن في مثل هذه الأمسيات الفاخرة، لا تُترك الأمور للصدف، فكل مقعد يُحدد مسبقًا وفق المكانة الاجتماعية أو مقدار التبرع الذي يُقدّمه الضيف.
لحسن الحظ، كانت نوران قد رتّبت مسبقًا تبرعًا باسم ليان، فحجزت لها مقعدًا، وهو ما لم تكن لتدرك أهميته إلا لاحقًا.
لكن بينما كانت تقترب من المدخل، أدركت نوران فجأة أنها نسيت دعوة الحفل في السيارة. وعندما حاولت الدخول، أوقفها أحد الحراس بلباقة:
“آنسة، هل لديكِ دعوة الدخول؟”
أجابت بهدوء:
“إنها مع صديقتي، ستأتي بعد لحظات.”
لم يكن الحارس يحاول إھانتها، لكن مظهرها لم يكن مألوفًا لمناسبة من هذا النوع. كانت ترتدي سترة مغطاة بالريش، مرقّعة هنا وهناك بطريقة بدت ملفتة للانتباه. في مثل هذه الأمسيات، كان الجميع يرتدون بدلات رسمية وفساتين باهظة الثمن.
قال الحارس:
“أنا آسف يا آنسة، لا يمكنني السماح لكِ بالدخول من دون دعوة. يجب أن تنتظري صديقتك.”
ورغم أنها شعرت بالإحراج، حافظت نوران على وقارها، واعتدلت في وقفتها محاولة ألا تلتفت إلى نظرات بعض الضيوف التي اخترقت كبرياءها كالسكاكين.
في تلك اللحظة، ظهرت مرام بصحبة كارين. كانت الأخيرة قد شبكت ذراعها بذراع مرام، تسير معها كأنهما في عرض أزياء.
سمعت نوران صوت كارين وهي تقول بحماسة مصطنعة:
“مرام، رأيت الفستان في المقابلة! يُقال إن فيه 3650 ماسة، وكل ماسة ترمز إلى يوم من حب السيد القيسي لكِ. هذا جنون… أحسدكما.”
شدّت نوران قبضتيها بقوة، لكنها لم تشعر بشيء. الصدمة كانت أعمق من أن يعبّر عنها الألم الجسدي. لطالما ظنّت أن فستان “ميليا ستيلاي” صُمم خصيصًا لها، وأن تلك الماسات مجرد تفاصيل تصميم… والآن تكتشف أنه لم يكن سوى قصيدة حب لأخرى.
مرام كانت محاطة بمجموعة من النساء يرتدين ملابس فاخرة ومجوهرات لامعة. وعندما التقت عيناها بعيني نوران، أشاحت بنظرها ببرود متعمّد، كأنها لا تعرفها. لم تكن ترغب أن يربط أحدٌ بينها وبين ماضي أحمد.
أما كارين، فكان لديها حسابات أخرى. لطالما استصغرت نوران، والآن رأت الفرصة سانحة لتصفية حساباتها القديمة.
قالت ساخرة وهي تنظر إلى ملابس نوران:
“أليس هذا عبقريتنا في الصف؟ ما هذا الذوق؟ ظننتكِ متسولة عندما رأيتكِ من بعيد.”
وفي لحظة متشنجة، قطع الحارس الحوار وسأل مرام:
“سيدة القيسي، هل تعرفين هذه السيدة؟ ليس لديها دعوة دخول، لكن إن كنتِ تعرفينها، يمكنها الدخول معكِ.”
أجابت مرام بجفاء وقسۏة:
“لا أعرفها.”
علّقت كارين باحتقار:
“يجب أن تفحصوا أعينكم. لا تتركوا مثل هؤلاء يدخلون. ربما جاءت لتسرق شيئًا قبل رأس السنة.”
قال الحارس وقد بدا عليه التوتر:
“شكرًا لكِ سيدتي. سأُبقي الأمر تحت المراقبة.”
وبينما كانت كارين ومرام تدخلان المبنى متباهيتين، أوشك الحارس على مطالبة نوران بالمغادرة، حين خرج هشام من الداخل ليدخّن سېجارة، ولاحظ الموقف.
“توقف”، قالها هشام بثقة وهو يقترب، “إنها ضيفتي.”
فتراجع الحارس فورًا، وفتح الباب على مصراعيه لنوران.
خطت إلى الداخل بهدوء، لكن في داخلها كان الانكسار يُراكم وجعًا تلو الآخر.
كم الخذلان لا يحتمل في هذه الرواية