رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك 90

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 90

“سيدتي نوران، هل ترغبين أن أرافقكِ إلى الداخل؟” سأل هشام بلطفٍ يليق برجل نبيل، وهو ينحني قليلًا احترامًا.

هزّت نوران رأسها برفق وقالت بصوت منخفض:
“لا داعي، أنا بانتظار صديقتي… ها هي قادمة.”

رفعت عينيها لتجد ليان تقترب بخطوات واثقة، مرتدية معطفًا من الفرو الأحمر الڼاري، وجوارب شفافة تكشف عن ساقيها، وحذاء بكعب عالٍ يقرع الأرض كطبول الحړب. المشهد بأكمله لم يكن مألوفًا إلا في عروض السيرك أو نوادي الرقص الغجرية.

“تبدو كنعامة تحترق وسط النيران.”
فكّرت نوران في سرّها، وقاومت رغبة قوية في أن تتنكر، أو تختفي، أو تنكر معرفتها بها.

لم يخطر ببالها أن سبب تأخر ليان كان تبديل ملابسها داخل السيارة، أو رشها العطر بكمية تكفي لإغراق غرفة كاملة.

بقيت ليان تقترب، ترتدي نظارات شمسية ضخمة تغطي نصف وجهها، وفوقها سحابة عطر خانقة كأنها تسير في زوبعة من المسک والزهور الشرقية.

استدارت نوران بسرعة، وهمست لهشام ببرود:
“عذرًا، يبدو أنني أخطأت في الشخص… سأدخل الآن.”

“نوران! انتظريني!” صاحت ليان من خلفها.

ركضت نحو هشام وتوقفت أمامه مباشرة، وخلعت نظارتها ببطء درامي:
“هل قلت شيئًا أغضب نوران مجددًا؟”

لم يكن هشام من النوع الذي يعلّق على ملابس النساء، لكنه هذه المرة لم يستطع منع نفسه من التفكير:
“هل تظن أن هذا المكان ملهى ليلي؟ هل تنوي الرقص على المنصة؟”

لكن ما قاله بصوت مسموع كان أقل حدة:
“تعالي معي.”

ردّت ليان وهي ترفع ذقنها بتحدٍّ، وأخرجت بطاقة دعوة ذهبية من حقيبتها الصغيرة اللامعة:
“لا حاجة، لديّ دعوة رسمية باسمي.”

كان ڠضبها يتصاعد، ليس فقط بسبب هشام، بل لأن حضوره يذكّرها دومًا بأحمد، الرجل الذي كان ذات يوم صديقًا مشتركًا، ثم أصبح وجهًا من الماضي الثقيل.

قالت بتهكم ساخر:
“عندما ټموت، سأرقص على قپرك مرتدية هذا الفستان.”

هشام، الذي لم يكن يرغب في الدخول في سجالات فارغة، ابتسم بسخرية خفيفة، ثم استدار مبتعدًا.

في هذه الأثناء، كانت نوران قد صعدت إلى الطابق الثاني، تشق طريقها وسط الحضور ببطء، متجاهلة العيون المتطفلة والنظرات المتفحصة.

لقد كان هذا المكان يحمل ذكريات كثيرة لوالدها جاد، الذي لطالما أحب زيارة قاعات المزادات والمعارض، ليس لشراء شيء، بل للاستمتاع بجمال القطع القديمة. كان عاشقًا للفن، مولعًا بالتحف واللوحات، وهاويًا للرسم والنحت في أوقات فراغه.

عندما كانت عائلة الهاشمي في أوج مجدها، كان قصرهم يزخر بمقتنيات نادرة، تتراوح بين روائع العصور الوسطى وتحف عصر النهضة. لم يكن الكثيرون يعرفون أن جاد الهاشمي كان يملك ذوقًا فنيًا رفيعًا، ويعامل كل قطعة كما لو كانت روحًا حية.

وأثناء تجوال نوران بين الممرات المزينة بالطراز الباروكي، لفت انتباهها شيء مألوف خلف زجاج إحدى الخزائن. اقتربت أكثر، فوقع بصرها على تمثال خشبي صغير، محفور بإتقان، على ذراعه خطوط بارزة.

نظرت إليه بدهشة، ثم ابتسمت بمرارة. كان هذا التمثال ذاته الذي عضّته في طفولتها، عندما سخر والدها منها قائلًا:
“ساقكِ الصغيرة تشبه هذه، مصنوعة من الشوكولاتة!”

كانت يومها في السادسة من عمرها، وصدّقت كلامه، فڠضبت وعضّت التمثال بكل قوتها. وبكت بعدها، خوفًا من سقوط أسنانها.

الآن، وبينما تتأمل تلك النتوءات الصغيرة على الخشب، شعرت بدفقة حنين جارفة تجتاحها. دمعتاها تسلّلتا في صمت، والتفّت أصابعها حول حقيبتها بقوة لتمنع نفسها من الاڼهيار.

وقفت أمام الخزانة كأن الزمن توقف، تحدق في الماضي متجسدًا في قطعة من الخشب. كانت هناك، جسدًا، لكن قلبها في مكان آخر، مع والدها، في أيامٍ لم تكن فيها تعرف طعم الفقد.

أخيرًا، همست في داخلها:
“اليوم…”

فاليوم، لم تأتِ لتتذكر فقط. بل جاءت لتستعيد ما يمكن استعادته.

استدارت لتواصل طريقها، لكن نظراتها التقت بنظرات… أحمد.

كان واقفًا أمام المسرح، مرتديًا معطفًا أسود طويلًا يضفي عليه وقارًا وهدوءًا. عيناه، كعادتهما، عميقتان وغامضتان، كأنهما تحويان بحرًا من القصص غير المروية.

تبادل النظرات لم يستمر أكثر من لحظات، لكنه كان كافيًا ليهز أعماقها.

ثم أبعد نظره.

مرت نوران من جانبه دون أن تنبس بكلمة، وكأنهما مجرد غريبين لم يتشاركا يومًا بيتًا، وذكريات، وأحلامًا.

همست:
“عفوًا.”
ومضت.

لحظات بعد ذلك، ظهرت مرام وهي تبتسم بثقة، تضع يدها على ذراع أحمد وقالت:
“أحمد، كنت أبحث عنك. ماذا تفعل واقفًا هنا بمفردك؟”

تدخلت كارين، الواقفة بجانبها، بنبرة مفتعلة:
“بالطبع هو هنا من أجلك. أنتما مغرمان لدرجة أنكما… تكادان…!”

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت. سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 91

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top