رواية حتى بعد الموت الفصل 91

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 91

لم تكن المأدبة قد بدأت بعد، لذا انشغل الحضور بالتجوال بين المعروضات، يلقون نظراتهم الفضولية على القطع الفنية والمزادات التي ستُطرح لاحقًا، فيما كانت الأحاديث الجانبية والأجواء الراقية تملأ القاعة بحيوية مبهرة.

لكنّ سكون القاعة اهتز فجأة عندما جذبت تصرفات كارين أنظار الجميع، حين قامت بمناداة نوران بصوت مرتفع أثار اهتمام الحاضرين، وكأنها أرادت عمداً توجيه الأنظار نحوها.

كانت مرام تراقب الموقف من بعيد، وقد لاحظت العبوس الذي ارتسم على وجه أحمد، فتشبثت بذراعه سريعًا، وهمست بمحاولة لتلطيف الأجواء:
“نوران وكارين كانتا زميلتين في الجامعة، بينهما تاريخ طويل من الخلافات. لا داعي لتدخلك، فهذا شأن قديم.”

لكن أحمد، بصمتٍ بارد، حرر ذراعه من قبضتها، ثم عدّل ربطة عنقه دون أن يلتفت إليها أو يرد بكلمة.

أحست مرام بالحرج، لكنها تمالكت نفسها، وأضافت بصوت أكثر رصانة:
“تذكر، أنت ونوران مطلقان منذ مدة. أي تصرف تجاهها الآن قد يُساء فهمه. نحن على وشك إعلان خطوبتنا رسميًا، والمستشفى تُجري ترتيبات كبيرة. أي شائعات حولك قد تزعزع سمعة مجموعة القيسي، وقد تؤثر على أسهمها في السوق. من المنطقي أن تبتعد عنها تمامًا.”

نظر إليها أحمد أخيرًا، وقال ببرود وهو يستدير ليبتعد:
“ومن قال إنني كنت أنوي مساعدتها؟”

في هذه الأثناء، لم تفوّت كارين فرصة لزيادة الطين بلّة، فأشارت إلى نوران قائلة بنبرة عالية:
“من الواضح أن هذه المرأة تسللت دون دعوة! يجب على الجميع التأكد من مقتنياتهم، فقد تكون هناك نوايا خبيثة.”

وقبل أن يتمكن أحد من الرد، تعالى صوت شاب من الخلف:
“أين المنظم المسؤول؟ هل هذا هو التنظيم الذي تفاخرون به؟ كيف يُسمح بلص بالدخول؟”

كان المتحدث هو شهاب كروسبي، ابن مالك كروسبي، الذي ظهر فجأة بجواره حاشية من الأشخاص.

لم يكن شهاب قد التقى بنوران من قبل، لذا نظر إليها بنظرة فاحصة، ثم قال باستخفاف:
“آنسة، أرجو منكِ مغادرة القاعة.”

لكن نوران، التي كانت واقفة بهدوء وسط نظرات الاستهجان، رفعت رأسها وقالت بصوت هادئ، يفيض كرامة:
“ولماذا عليّ المغادرة؟”

رد شهاب بسخرية واضحة:
“لأن كل مقعد هنا يُمنح لمن تبرع بمبلغ معين، وأنتِ، بكل وضوح، لا مكان لكِ بيننا.”

تدخلت كارين مجددًا، بصوت يحمل سمًّا خفيًا:
“صحيح. مظهرها وحده كافٍ! ملابسها لا تليق بهذا المكان… حتى الوقوف بجانبها يُشعرني بالإهانة.”

رغم أن أحدًا لم يمد يده على نوران، إلا أن الكلمات التي أُطلقت حولها كانت كالسكاكين الحادة، تمزق كبرياءها بلا رحمة.

لكنها لم تنكسر، لم تهرب. بل وقفت ثابتة وقالت بهدوء شديد، جعل أصواتهم تتوقف:
“لقد تبرّعت بالفعل.”

اڼفجرت كارين ضاحكة بسخرية:
“أنتِ؟ هههه. كم؟ خمسة دولارات؟ ثلاثة؟ لماذا لا تُخبرينا بالمبلغ؟”

في الظروف العادية، لم تكن نوران لتتكلم. لم تكن تحب التباهي ولا المجادلة. لكنّها وُضعت في زاوية ضيقة، وكان لا بد من المواجهة.

نظرت إلى الحاضرين وقالت بصوت منخفض، لكنه اخترق القاعة بأكملها:
“خمسة ملايين دولار.”

صُدم الجميع. الټفت أحمد على الفور، وحدّق فيها طويلاً، وعبوسٌ غامض يرتسم على وجهه. لقد عرفها جيدًا. لم تكن لتكذب في شيء كهذا.

هو نفسه من منحها عشرة ملايين دولار بعد الطلاق… والآن، اكتشف أنها تبرعت بنصف المبلغ لأجل قضية إنسانية لا أحد يعلم بها.

قال شهابساخرًا:
“خمسة ملايين؟ ألا تخشين أن ينمو أنفكِ مثل بينوكيو؟”

أما مرام، فقد أضافت بابتسامة مصطنعة:
“آنسة الهاشمي، كوني واقعية. الحقيقة لا تختبئ طويلاً. ستنكشف أكاذيبكِ عاجلًا أم آجلًا. لا تملكين حتى دعوة. توقفي عن التمثيل.”

وفجأة، ومن اتجاهين متقابلين، انطلق صوتان قويان في اللحظة ذاتها:

“من قال إنها لم تتلقَّ دعوة؟ ومن قال إنها لم تتبرّع؟”

كان المتحدثان هما ليان، التي ظهرت من جهة اليمين، ومالك كروسبي، الذي دخل من الباب الرئيسي من الجهة المقابلة.

لم يكد صوتاهما يتوقفان، حتى التقت عينا مالك بعينَي أحمد، فابتسم وقال بودّ:
“لم أرك منذ زمن، سيد القيسي. توقعت قدومك، لذا طلبت من فريقي تجهيز مقعد خاص لك. تفضل.”

رد أحمد باقتضاب، دون اهتمام واضح:
“شكرًا لك.”

ثم اندفع مالك نحو نوران، وقال لها بنبرة احترام نادر في هذا النوع من المناسبات:
“سيدتي نوران، أعتذر لتأخّر الترحيب. كنت أنتظرك.”

حدّق شهاب بذهول وقال:
“أبي، هل حقًا تبرّعت بخمسة ملايين؟”

لكن مالك لم يجب عليه، بل اكتفى بنظرة قاسېة قائلاً:
“السيدة نوران لديها قلب من ذهب… على عكسك، أيها الغبي.”

ثم استدار بلطف نحو نوران، وقال بابتسامة دافئة:
“طلبت من فريقي تجهيز مقعد خاص لكِ، تفضّلي من هنا.”

عمّ الصمت أرجاء القاعة. أصيب الحضور بالذهول، وراحت الأنفاس تنحبس. من هذه الشابة التي ترتدي سترة ريشية؟ كيف تبرّعت بخمسة ملايين؟ هل نحن في حلم؟

أما كارين ومرام، فقد كان وقع كلمات مالك كصڤعة مدوّية على وجهيهما، لا سيما مرام، التي تجمدت مكانها، عاجزة عن النطق.

مرت نوران بجانبها دون أن تنظر إليها، وجهها بلا تعبير، وقلبها كالجمر، هادئ في مظهره، ملتهب في داخله.

لكن ليان توقفت عمدًا عند مرام، وقالت بنبرة ساخرة:
“آنسة الزهراني، سمعت أنك ستصبحين السيدة القيسي قريبًا؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تزالين تجلسين خلف نوران؟ ومن منحك الجرأة لخلق هذه الفوضى أمامها؟”

ارتجفت مرام من الڠضب، وقالت متحشرجة الصوت:
“ليان… لا تكوني سخيفة.”

رفعت ليان حاجبها بابتسامة ساخرة وقالت:
“صدّقيني، عندما تموتين، سأفعل شيئًا أكثر سخافة من هذا فوق قپرك.”

رؤية الذهول في عيني مرام أشعلت داخل ليان نشوة الانتصار. وبدلاً من أن تجلس بجانب نوران، قررت الوقوف أمام مرام مباشرةً، وقالت برفع يدها للمنظم:
“أنا صديقة مقرّبة للسيدة نوران. أرجو أن تحجزوا لي مقعدًا بجوارها.”

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 92 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top