الفصل 109
أوليفيا لم تعد قادرة على تبرير أفعال إيثان. لم تعد تملك القوة لاختراع أعذار تُخفي بها فظاعته. لم تعد تلك المرأة التي تُزين تخدع بالكلمات، ولا تلك التي تُقنِع نفسها بأنّ ما تراه ليس حقيقيًا. الحقيقة كانت أوضح من أن تُنكر. أوضح من أن تُغتفر.
لطالما عرفت أن إيثان ليس بالرجل اللطيف. كانت ترى في عينيه دومًا برودة ما، لم تكن تعرف كنهها، لكنها تجاهلتها، ظنًا منها أنها هشاشته الخفية. أما الآن، وقد رأت وجهه الحقيقي، أدركت أنه لا هشّة فيه… بل صلبٌ في قسوته، قاطع في بروده.
في تلك اللحظة، رأت كم كانت عمياء. كم كانت جاهلة. كم خدعها قلبها، وضللها حُبها.
تلعثمت، وتكاد الكلمات تتساقط من فمها كأنها حُصى، وهي تقول بصوت متقطع وهي تحاول السيطرة على ارتجاف شفتيها:
“إيف… أتتذكرين يوم الحاډث؟ كنت أطهو له. أعددت له وجبة منزلية من قلبٍ مرهَق، لأنه كان عيد ميلاده. ذلك اليوم الذي لا يحبّه، لأن ذكرى ميلاد شقيقته تطغى عليه. كل عام، ينكمش، ينعزل، يبتعد عن كل شيء. أردت أن أُعيد له معنى الحياة. أردت أن أزرع فيه دفئًا، أن أقول له، دون كلام: أنت لست وحدك.”
تنهّدت، وأغمضت عينيها كأنها تستحضر المشهد.
“زينت البيت. وضعت البالونات، وأعددت قالبًا من الكيك بيدي المرتجفتين. كنتُ متحمسة… نعم، متحمسة رغم كل شيء. أردته أن يشعر بأنه محبوب. أنه مهم.”
لكن الابتسامة لم تجد طريقها إلى وجهها. بل تجمّد الكلام في حلقها وهي تضع يدها على صدرها، كأنها تمنع الألم من التمدد في داخلها.
“وقبل أن يعود… اتصلوا بي. أبي… أبي في حاډث مروع. كل شيء انهار فجأة. حتى الطعام احترق.”
سعلت. اختنق صوتها من فرط الغصة.
“أتدرين، في لحظة ما، تمنيت أن أموت. أن تنتهي كل تلك المآسي دفعة واحدة. لم أكن مستعدة لفقد والدي، ولا لاحقًا لما جرى… السړطان… طفلي… إيثان.”
اڼفجرت شهقة مؤلمة من صدرها وهي تهمس:
“لماذا أنا؟ لماذا؟! لماذا يحدث كل هذا لي؟ ماذا فعلتُ؟ لماذا يُصاب الطيبون بالسړطان؟ لماذا يُختبرون بهذا الشكل؟ أين عدالة الله؟ أين حكمته؟”
ركضت إيفرلي إلى المناديل، وأعطتها واحدة تلو الأخرى، ثم احتضنتها بقوة، كأنها تحاول أن تمسك روحها قبل أن تتسرب.
“اهدئي، ليف… رجاءً. لا تتركي أفكارك تدمّرك. إيثان… مجرد كونه في موقع الحاډث لا يعني شيئًا. من أعطاكِ الصور؟ ماذا لو كانت مزيفة؟”
هزّت أوليفيا رأسها، وهمست بصوت شاحب:
“استأجرت محققًا خاصًا. لا يعرفني، ولا يعرفه. لا يوجد بيننا أي دافع للكذب. الصور واضحة، والوقت… كل شيء يتطابق. لم تكن مصادفة. لقد كان هناك، في نفس اللحظة.”
ثم رفعت عينيها بنظرة زجاجية وقالت:
“كان عيد ميلاد ليا أيضًا. ربما… أراد أن يُخلّد ذكراها بطريقته. مأساة جديدة… مۏت والدي هذه المرة.”
قهقهت فجأة، ضحكة مريرة تخترق جدار الصمت كخنجر:
“تخيلت يومًا أنني مدينة له لأنه أبقى عليّ حيّة. لأنه لم ېقتلني كما قتل شقيقته. لكن… ربما، لم يكن ذلك كرمًا. ربما… أراد مۏتي أيضًا.”
شهقت، ووضعت يدها على بطنها الخاوي كأنها تُجس نبض مَن رحل:
“وطفلي… لم يكن يرغب بإنقاذي. أراهن أنه لم يتردد لحظة في تركي أموت. أراد أن يُضحّي بي أنا وطفلي، كأننا مجرد أوراق تُسقطها الريح!”
شهقت إيفرلي، وانكمشت في مكانها من الفزع. نظرت إلى وجه صديقتها وقد تحوّل إلى مرآة لغضبٍ مُظلم، وهمست:
“ليف… أنتِ تُفزعينني. هذه ليست أنتِ. لا تُفكّري بهذه الطريقة…”
لكن أوليفيا لم تكن تسمع. كان الڠضب قد اجتاحها كطوفان، لم يبقِ شيئًا من هدوئها.
نظرت نحو إيفرلي، وقالت بصوتٍ بارد كالجليد:
“ألم تقولي يومًا إنني مدينة له؟ لأنه فقد ليا؟ وأنا؟ ألا أحد يرى أنني فقدت كل شيء؟ أبي، وطفلي، وكرامتي، وبيتي، بل حتى اسمي!”
نهضت واقفة فجأة، وكأن قوة مجهولة تسري في عروقها، وصړخت:
“مارينا؟ أهانتني، ضړبتني، أجبرتني على الانحناء أمامها. أين كان إيثان؟ يراقب فقط. يتمتع بقوة سلطته. يظن أنه يتحكم بي؟ أنه يملكني؟”
أغمضت عينيها، ورفعت يدها كأنها تقسم:
“سأُسقطهم واحدًا تلو الآخر. مارينا، إيفا، وحتى إيثان. لن أرحمهم. لن أسمح لهم أن ينجوا. سأسترد كرامتي، اسمي، وحقّي.”
نظرت إلى السقف، عيناها دامعتان، وفيهما بريق غريب:
“أعلم أنك تراقبني من فوق، يا أبي… تريني، تسمعني. وتكشف لي من يخونني، وتُرشدني. أليس كذلك؟ ساعدني فقط، كما كنت تفعل دائمًا…”
اڼهارت على أرض الحمّام، جسدها المنهك ارتطم بالبارد كأنه يُطالبها بالاستسلام. انكمشت، كجنين خائڤ، ثم تمتمت، بالكاد يُسمع صوتها:
“بمجرد أن أُنهي اڼتقامي… سأتي إليك. انتظرني، يا أبي… لن أتأخر كثيرًا.”
رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 110 رواية حتى بعد الموت