الفصل 71
تحوّل حلم نوران من مشهد محيط هائجٍ إلى حقلٍ فسيحٍ تتراقص فيه زهور دوّار الشمس تحت ضوءٍ ذهبي ناعم، يلامس الأرض كما تلامس الأم وجنة طفلها. وسط الحقل، كان طفل صغير يركض ويضحك، شعره يتطاير مع الريح وصوته يعلو ببراءة:
“ماما! تعالي خذيني!”
ركضت نحوه بجنون من اشتاقت حدّ الألم، صدرها يعلو ويهبط، وقلبها يخفق كما لم يخفق من قبل.
“يا حبيبي… يا نور عمري!”
احتضنته بشوق المشتاقين من عالمٍ آخر، وكأنها استعادته من براثن النسيان.
“أخيرًا وجدتك، يا روحي… سامحني، لن أتركك بعد اليوم، أقسم.”
لكن ما إن أدارت وجهه نحوها حتى جحظت عيناها بدهشةٍ مألوفة. كان الوجه… وجه رُكان، ممتلئ، دافئ، كأن الزمن قد توقف عنده.
وفجأة، سكب المطر نفسه من السماء كأنما انفجرت السحب حزنًا، فأمسكت بالطفل وركضت نحو ملجأ قريب، جسدها مبلل حتى العظم، ولكن قلبها كان يغلي بحرارة اللقاء.
ثم انقطعت المشاهد… واستفاقت.
فتحت عينيها لتجد الطفل أمامها، بذات الوجنتين الممتلئتين، ولعابه يسيل من شفتيه الورديتين. كان على وشك أن يسقط على وجهها، لكن يدًا مألوفة امتدت سريعًا، تمسح فمه بلطف. نظرت إليه، فإذا به أحمد… ذلك الرجل الذي اشتهر بجفاء عواطفه وتغطرس حضوره.
تبادل النظرات بينهما كان مشوبًا بالحيرة والارتباك. نوران لم تتوقع أن ترى رئيس شركتها بتلك الحالة، حانيًا، حاضرًا، دون درع الغطرسة المعتاد.
ضحكت بخفة خائفة وهي تتفحص الغرفة حولها:
“هل أنا… في حلم؟ هل متّ؟ لماذا أنتم هنا؟”
رمقها أحمد بنظرة باردة لكنها متوترة، وقال بنبرة لم تخفِ قلقه:
“وهل هذا ما تأملينه؟ الموت؟”
أجابت بصوت متهدّج:
“نعم… ففي الموت راحة، حرية لا يملكها الأحياء. الحياة خذلتني.”
مدّت يدها بلا وعي وقرصت خد الطفل. كان لينًا ودافئًا… حقيقيًا جدًا.
“النجاة متعبة. لا تشبه الحياة… بل تشبه العذاب.”
رُكان، ببراءته المعهودة، لم يفهم كلام الكبار، لكنه شعر بحاجة ملحة إلى الاقتراب منها. بدأ يحاول تسلق السرير، يهتف بصوته الطفولي الرقيق:
“ماما! ماما… بوسة!”
كلمته، تلك الكلمة الصغيرة، اخترقت أعماقها كسهمٍ مغمس بالحنين، فانفجرت بالبكاء.
“ماذا قلت؟ ناديتني… ماما؟”
لم يتدخل أحمد. كان يعرف أن تلك اللحظة لا تُقاطع. نوران لم تعد بحاجة إلى نصيحة أو ملامة، بل إلى خيطٍ واحد تتمسك به في غرقها. ورُكان كان ذلك الخيط.
وللمفارقة… أنقذها.
هذا الطفل، بكلمة واحدة، سحبها من حافة الانهيار. رغم صغر سنه، ورغم بساطة كلماته، إلا أنه قال ما لم يقله أحد من قبل.
رُكان لم يكن ينادي مرام، والدته الحقيقية، بـ”ماما”.
مرام نفسها اشتكت مرارًا من تأخره، حتى وصمته بالغباء يوماً، مستاءة من صمته وإعراضه عن مناداتها.
لكنّه، هذا اليوم، نطقها لأول مرة… وقالها لنوران.
احتضنته بقوة، كأنّها تحاول لصق ما انكسر بداخلها. وهو بدوره، لف ذراعيه الصغيرتين حول عنقها، وغاص وجهه في عنقها الدافئ بعد أن فشل مراتٍ في الوصول إليها. دموعها سالت بصمت، تخترق الجلد والروح.
“يا صغيري… كم كنتُ سأتمنى لو كنتَ ابني.”
رفع رأسه، وعيناه السوداوان تلمعان ببريق الطفولة. ابتسم ابتسامةً ملأت الفراغات داخلها.
“ماما.”
سقط لعابه على عنقها، وكان الجو باردًا واقعيًا أكثر من اللازم. حينها فقط، أدركت أن ما يحدث ليس حلمًا.
أخذت تفتش بعينيها الغرفة حولها. رائحة المطهر، جدران بيضاء، أجهزة طبية، ستائر باهتة… كانت في مستشفى.
كان أحمد يقف بجانب سريرها، لا يحمل تلك النظرة القاسية المعتادة، بل تعبير قلقٍ نادر.
“كيف تشعرين؟ هل أنتِ بخير؟”
نظرت إليه بصمتٍ طويل، ثم ابتسمت بسخريةٍ حزينة:
“أجل… أنا على قيد الحياة. ولكن، لا بفضلك.”