الفصل 75
ضحك أحمد بخفة، لكن نبرته حملت قسوة خفية، وهو يمسك نوران من معصمها ويجذبها إلى صدره كأنها قطعة مكسورة يحاول تجميعها عنوة. كان الغضب لا يزال يشتعل تحت جلده، وقد انعكس ذلك في طريقته الحادة حين ثبت ساقيها على جسده بذراعيه، يمنعها من الحركة كما لو أنه يخشى أن تتلاشى أمامه فجأة.
نوران، وقد تملكتها الدهشة، حاولت تحرير نفسها بخجل وارتباك، لكن أصابعها تلامست عنقه بالصدفة، فارتجفت وتراجعت على الفور. بقي دفء جسده عالقًا بأطراف أصابعها المرتعشة، كأن حرارة قلبه تتسلل إليها رغمًا عنها.
قالت بصوت مخنوق: “أحمد، دعني أذهب.”
بذلت كل ما بوسعها، دفعت، صرخت بعينيها، لكن ذراعيه كانتا أقوى من إرادتها. استسلمت أخيرًا، كأنها فقدت الحيلة والطاقة معًا، وبقيت ساكنة بين ذراعيه، جسدها يتمايل مع خطواته بينما كان يسير في الممر المغطى بطبقة كثيفة من الثلج.
كان الثلج يتكسر تحت حذائه الجلدي الثقيل، صوتهما الوحيد في صمت المكان، ذلك الصمت الذي خيّم عليهما كأن العالم بأسره توقف عن الدوران.
لم يتحدث أحمد، لم يلتفت، فقط استمر في السير حتى وصل باب غرفتها. فتحه بقدمه، ودخل.
الدفء الداخلي للغرفة بدد بعضًا من تجمد جسدها، لكن قلبها بقي مأسورًا ببرود تلك اللحظة.
وفجأة، هرع رُكان نحوها بخطوات غير متزنة، كان صغيرًا جدًا على استيعاب ما يحدث، وجهه مبلل بالدموع والمخاط، عيناه تبحثان عن حنانها الذي طالما احتواه.
مدت يدها إليه لا إراديًا، كأنها تبحث عن مهرب من عذابها في حضن طفلها، لكن أحمد قطع تلك اللحظة، وأمسك برُكان من ياقة معطفه الصغير، ورفعه بخفة كأن الطفل لا يزن شيئًا.
أمر رجاله ببرود قاتل: “أعيدوا رُكان إلى منزله.”
“فهمت.”
كان هشام واقفًا غير بعيد، وعندما سمع الأمر، شعر بارتياح عميق لأن نوران، رغم كل شيء، لم تُصب بأذى جسدي ظاهر.
دخل الطبيب زياد بعد دقائق، يحمل أدوات الفحص وأوراقًا كثيرة. تقدم نحوها بهدوء، ثم بدأ بفحصها بعناية قبل أن يجهز لها محلولًا وريديًا.
قال بصوت مهني مائل للقلق:
“عدد خلايا الدم البيضاء منخفض جدًا، هذا أمر غير مطمئن إطلاقًا. عليكِ أن تلتزمي بالراحة التامة، ولا ترهقي جسدك تحت أي ظرف. المرة القادمة… قد لا يكون هناك فرصة للنجاة.”
نوران لم ترد. كانت تحدق في السقف بعينين زجاجيتين، فارغتين كدمية من قماش مهترئ. لم تعد تبالي. لقد أفلتت من الموت، لكن بأسوأ طريقة ممكنة، فقد أصبحت سجينة رحمة أحمد.
الآن وقد أنقذها من الموت، من سيُنقذها من الحياة معه؟
همست بصوت خافت كمن استسلم: “نعم… لقد فهمت.”
رد بجمود: “من الأفضل لكِ ذلك.”
ثم استدار وخرج، دون أن يمنحها حتى نظرة أخيرة.
في الممر الخارجي، تبعه زياد بخطى مترددة، لا يعرف ما إذا كان عليه الحديث أم الصمت. وفجأة، توقف أحمد فجأة، ما جعله يصطدم به تقريبًا.
استدار أحمد بوجه متجهم وهمس له:
“اكتشف السبب وراء انخفاض خلايا الدم البيضاء. هناك شيء مريب لا يمكن تجاهله.”
تذكر أحمد جيدًا أن نوران كانت تتمتع بجسد قوي ولياقة عالية. لم تكن من النوع الذي يسقط بسهولة. ولكن الآن، مع الحمى، ونقص المناعة، والقفز من الطابق السابع بلا تردد… كل شيء بدا مقلقًا وغير منطقي.
أومأ زياد بثقة حذرة:
“بالطبع، يا سيد القيسي. سنجري جميع التحاليل اللازمة غدًا صباحًا. في الواقع، لم تخضع لأي فحص طبي منذ أكثر من عامين، لكن تاريخها الصحي لا يشير إلى أمراض مزمنة.”
قال أحمد بحدة: “من الأفضل أن يبقى الأمر كذلك.”
غادر بعدها بخطوات سريعة، بينما عاد زياد إلى مكتبه بوجه شاحب. كان عليه أن يكون أكثر دقة هذه المرة. لا مجال للأخطاء في هذه الحالة.
طبع بسرعة قائمة طويلة من التحاليل، وهو يتمتم: “كل شيء يجب أن يُكشف، لا مجال للصدف بعد الآن.”
في صباح اليوم التالي، تلاشت الحمى أخيرًا من جسد نوران، لكن التعب لم يرحل.
دخلت ممرضة شابة، بلطف وابتسامة مصطنعة، وأعلنت بهدوء:
“آنسة الهاشمي، حان وقت الفحص.”
ارتجفت نوران تحت الغطاء، وفتحت عينيها كأنها سمعت إعلانًا بالموت.
“ماذا؟ أي فحص؟”
ابتسمت الممرضة، محاوِلة التخفيف من توتر الموقف:
“لا تقلقي، سيدة نوران، إنها فحوصات روتينية فقط… طبية متقدمة، كما طلب السيد زياد.”
تجمد الدم في عروقها. هل اكتشف أحمد سرّها؟ هل اقتربت نهايتها بطريقة أخرى؟
شعرت بأنها تغرق مجددًا، لكن هذه المرة، كانت الغرق بطيئًا… وباردًا.