رواية حتى بعد الموت الفصل 79

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 79

تذكّرت نوران النظرة الباردة في عيني أحمد، تلك النظرة التي لا تحمل ذرة شك أو شفقة، فأجابت بسرعة، كمن يحاول إغلاق الباب أمام أي استفهام قد يقلب الطاولة:
“لا، لم أتناول أي علاج.”

ابتسم زياد، وقد بدا الارتياح جليًا على ملامحه. وكأن عبئًا ثقيلًا أُزيح عن صدره، فقال بلطف:
“هذا رائع إذًا. على الأغلب، الأمر مجرد عدوى فيروسية عابرة. بعد بضعة أيام من المراقبة والعلاج الداعم، قد تتمكنين من مغادرة المستشفى.”

قدّم لها بعض النصائح الإضافية، ثم انسحب بهدوء من الغرفة بعد أن تجاهلته كليًا. لكنها كانت غارقة في دوامة شكوكها وأسئلتها المتلاحقة.

فالواقع لم يكن بهذه البساطة.

كانت نوران قد خضعت سابقًا لخزعة أكدت إصابتها بسرطان المعدة. لم يكن ذلك مجرد افتراض طبي، بل نتيجة حاسمة. وحتى بعد جلسة العلاج الكيميائي الأولى، التي أظهرت نتائج واعدة بانكماش الورم، لم يكن منطقيًا أن يُظهر التصوير المقطعي الأخير اختفاءً تامًا أو غيابًا لأي مؤشر على الورم.

شيء ما كان خاطئًا… خاطئًا بشكل مقلق.

النتائج الحالية لا تعكس حالتها. لا يمكن أن يكون الورم قد اختفى بهذا الشكل، لا سيما بعد جلسة واحدة فقط. كان الأمر أشبه بمحاولة محو الحقيقة من على الورق، لا من داخل الجسد.
لا بد أن أحدهم عبث بالتقارير.
ولا يمكن أن يفعل ذلك سوى شخص من الداخل، شخص يمتلك السلطة والجرأة.

لكن من؟ من يجرؤ على التلاعب بتقرير طبي، وهو يعلم أن أحمد القيسي يقف خلف نوران؟

هل يمكن أن تكون مرام؟
رغم أن الشكوك كانت تحوم حولها، خاصة بعد الحادثة الغريبة عند القبر، إلا أن نوران لم تكن واثقة تمامًا. شعرت أن هناك يدًا خفية تتحرك في الظل، أقوى وأكثر دهاءً من مرام.

وإن لم تكن مرام هي الفاعلة، فالمجرم الحقيقي لا بد أن يكون مرعبًا… مرعبًا بما يكفي ليبدو كالهواء، موجودًا في كل مكان وغير مرئي.

بعض ما حدث خلال العامين الماضيين بدا وكأنه مصادفة، لكن حين فكّرت فيه مليًا، بدأت تتكشّف أمامها خيوط غريبة، كأن أحدهم يتحكم بخيوط حياتها من خلف الستار، كأنها دمية خيوط يُحرّكها أحدهم بإتقان.

نعم، من حق أحمد أن يشكّ فيها، بل من حقه أن يرفض تصديقها. فبما تملكه من أدلة، ستبدو في نظره مجرد درامية تخلق القصص لتلفت انتباهه.
وإن تم فتح تحقيق علني، فالمذنب الحقيقي – إن كان ذكيًا بما يكفي – سيكون قد رتّب كل شيء لتبدو هي المخطئة.

لم تستطع أن تقلق زياد، الذي بدا منشغلًا بطمأنتها. لذا، قررت أن تحقق وحدها. كانت تخطط لمواجهة أخصائي الأشعة، بعيدًا عن الأعين. ومن حسن حظها أن مستشفى “ميرسي”، حيث أُجريت الفحوص، مملوك لعائلة زياد. وقد أعدّت لنفسها خطة بديلة، في حال واجهتها العراقيل.

ولم تمضِ ساعات على تلك الحادثة، حتى وصل الخبر إلى مدير المستشفى الحالي، كامل، شقيق زياد الأكبر.

على عكس زياد، الذي انغمس في الأبحاث والعمل السريري، كان كامل إداريًا من الطراز الأول، صعد السلم الإداري بسرعة، حتى أصبح مديرًا للمستشفى خلال ثلاث سنوات فقط. ورغم مظهره الهادئ، إلا أن ذكاءه الحاد وابتسامته المبهرة كانا سلاحين لا يُستهان بهما.

دخل الغرفة بخطوات واثقة، وقال بابتسامة دافئة:
“نوران… لم أتوقع رؤيتكِ بهذه السرعة. كيف حالكِ اليوم؟”

رفعت رأسها ببطء، وقالت بصوت ضعيف:
“لقد انخفضت حرارتي. شكرًا لسؤالك.”

كانت مستلقية على سرير المستشفى، وجهها شاحب وشفاهها جافة. لاحظ ذلك على الفور، وناولها كوبًا من الماء الدافئ.
قال بلطف:
“تفضلي، اشربي بعض الماء. لا تتعجلي.”

أخذت الكوب بامتنان، لكن استعجالها في الشرب أدى لاختناقها، فسعلت بعنف. سارع كامل بوضع وسادة خلف ظهرها وربّت على ظهرها بخفة حتى هدأت.

قال مازحًا:
“أنتِ لا تزالين كما كنتِ دائمًا… تندفعين قبل التفكير.”

ابتسمت بخفة، وكانت تلك اللحظة من المرات النادرة التي شعرت فيها بالأمان منذ وقت طويل.
أدار كامل نظره إليها، وسأل بنبرة تأمل:
“هل صحيح أنكِ تركت الجامعة من أجل السيد القيسي؟”

لم تجب على الفور. نظرت إلى السقف، ثم أطلقت تنهيدة طويلة وقالت:
“كان ذلك تصرفًا أحمقًا، أليس كذلك؟ ظننت أنني سأبني مستقبلًا أجمل إلى جانبه… لكن بدلًا من ذلك، وجدت نفسي في الحضيض.”

هزّ كامل رأسه وقال بهدوء مشجّع:
“ما دمتِ على قيد الحياة وتملكين الإرادة، فالفرص لا تزال قائمة. طريقكِ لم ينتهِ بعد، نوران. بل هو يبدأ من جديد الآن.”

صوته، رغم بساطته، أعاد لها شيئًا من الثقة. ترددت للحظة، ثم قالت بنبرة جادة:
“كامل… بما أننا كنا زملاء في الجامعة، هل يمكنك أن تسدي لي معروفًا؟”

“قولي فقط، وسأفعل ما أستطيع.”

نظرت حولها سريعًا، لتتأكد من أنهما وحدهما، ثم اقتربت منه وهمست بصوت منخفض، تخبره بجوهر ما تشك فيه: التلاعب في نتائج فحصها.

توقعت أن ينكر الأمر فورًا، أو يدافع عن سمعة المستشفى، لكنه لم يفعل. بل أمسك بتقرير الفحص ونظر إليه بدقة. تحوّل تعبيره من لطف إلى حزم.
قال بنبرة مختلفة، حادة ومسؤولة:
“لا تقلقي يا نوران. إن تجرأ أي شخص داخل هذه المؤسسة على تزوير تقرير طبي، فسيُعاقب وفقًا للقانون وبأقصى درجات الحزم.”

ربت على كتفها مطمئنًا، ثم قال:
“لن يفيد المستشفى إن تفجرت هذه الحادثة للرأي العام. سأتابع الموضوع بهدوء، وسأعود إليكِ بأجوبة دقيقة.”

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 80

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top