الفصل 65
ولأن الأضواء كانت مُسلَّطة والأنظار كلها مشدودة كالأوتار نحو تلك الزاوية التي تجمعهما آثر ظافر أن يُخفي غليان قلبه تحت عباءة الابتسام الزائف إذ لم يشأ أن يدخل في جدال أمام الحشود فاختار الصمتَ مكرها لا بطلاً.
عادت دينا بخفة من يعرف كيف يحرّك المشهد وسألته بنبرة من يحكم اللعبة:
“ظافري… ألا تودّ الانضمام إلى اجتماعنا لاحقًا؟”
كان في داخله إعصار صامت ولكن تهادى على قسمات وجهه سكون مُصطنع وما زال صداه غاضبًا مما تفوَّهت به سيرين من قبل فابتسم في وجه دينا قاصدًا أن يُسمع سيرين رنين موافقته إذ قال:
“بكل تأكيد.”
كان الطابق بأكمله في أحد فنادق الخمس نجوم محجوزًا بعناية تليق بمنصات الملوك.
الضوء خافت والموسيقى ناعمة كهمس البحر عند الفجر والثراء يتدلى من السقف على هيئة ثريات فاخرة وكأنها عناقيد من الذهب الذائب.
وما إن وطأت قدم ظافر أرض الصالة حتى أحاطت به دينا ومجموعة من أبناء طبقة الصناديق الائتمانية أولئك الذين تربّوا على موائد النفوذ.
أما سيرين فجلست وحدها كنجمة بعيدة سقط ضوؤها في ركن منعزل إذ اختارت طاولة جانبية وكأنها تحتمي بها من فيضان غامر من المشاعر ترتشف من كأسها شيئًا لا يروي العطش بل يُسكِتُ الأسئلة.
وفي تلك اللحظة جلست إلى جوارها امرأة أنيقة خطواتها محسوبة وعطرها يسبق حديثها.
انحنت تلك المرأة نحو سيرين قليلًا وهمست بنعومة وهي تُلقي بنظرها نحو دينا:
“أترينها؟ وحدها دينا من استطاعت إقناع السيد نصران بالحضور… فبالنهاية كانت حبه الأول.”
رفعت سيرين بصرها نحوها وعيناها تُضيئان بحزنٍ لا يُعلن عن نفسه فقد عرفتها في لحظة، تلك كانت إيفون الصديقة الأقرب لدينا ورفيقتها في الحكايات القديمة.
أخذت سيرين رشفة صغيرة من مشروبها كأنها تقطع بها خيط الحنين ثم ردّت بنبرة حملت بين سطورها نصلًا حادًا مُغطّى بالحرير:
“أعرف الحقيقة… لقد كنتِ أنت ِحب ظافر الأول أيڤون قبل أن تسرقه منكِ دينا. أليس كذلك حلوتي؟!.”
كادت الكلمات أن تُسقِط كوب إيفون من يدها.
أرادت إيڤون أن ترد، أن تدافع، أن تشرح… لكن جواب سيرين أغلق الأبواب وأشعل النيران في الممرات.
وقبل أن يتطوّر المشهد إلى عاصفة وقفت سيرين بهدوء قاتل وسارت بخطى أنثى اعتادت أن تترك خلفها غبار الأسئلة معلّقًا في الهواء… وغادرت.
خرجت سيرين من القاعة كمن يهرب من موجة برد اخترقت قلبه.
لم تكن خطواتها متعجلة لكنها كانت مشحونة بثقلٍ لا يُرى، خُطى واثقة تتقدّم وقلب متعب يتقهقر.
هبّ النسيم الليلي من الشرفة المفتوحة في نهاية الممر فاندفعت إليه سيرين وكأنها تفرّ إلى حضن الطبيعة بعد خذلان البشر.
وقفت هناك تتأمل أضواء المدينة التي تتلألأ كأنها دموع عالقة على وجنة الزمن، بدت المدينة في عيونها باردة، متحجرة تمامًا كما أصبح هو.
وحين انسحب ظافر من بين الحشود أخذت عيناه تبحث عنها كمن يفتش عن ظل روحه في مرآة مكسورة لكن سيرين… لم تكن هناك.
كانت المقاعد تغدو خالية كذاكرته بعد الغياب والضوء يبهت كصوته حين يناديها في داخله دون جواب.
أنهى حديثه مع دينا بابتسامة باهتة لا تُخفي البرود المتصاعد بينهما ثم غادر.
وفجأة، سمعته…
ذلك الصوت الذي تعرفه حتى في الصمت، نبرته حين يتكلم، أنفاسه حين يغضب، ووقوفه حين يحتار.
كان ظافر خلفها يقف مترددًا، يتردد ما بين أن يتحدث… أو أن يصمت.
“كنت أعلم أنك ستأتين إلى هنا.”
قالها بصوتٍ منخفض كأن الليل نفسه يختبئ داخله.
لم تلتفت لم تمنحه حتى لحظة نظر فقط اكتفت بكلمات تقطر بردًا:
“هل أتيت لتتأكد أن الجرح عميق بما فيه الكفاية؟”
اقترب منها خطوة بعد خطوة حتى أصبح خلفها تمامًا وبينهما هواء مشحون بكهرباء الذكريات.
“سيرين… لم أقصد أن أؤذيكِ.”
انفـ ـجرت سيرين تقهقه بهيستيريا لكن ضحكاتها كانت أقرب للبكاء، وقالت:
“أنت لم تؤذِني يا ظافر… أنت فقط فتحت الباب لكل شيءٍ كنت أهرب منه.”
استدار إلى جانبها ينظر إلى وجهها الذي حاولت الشمس أن تختبئ فيه منذ الأزل وتساءل بعينيه قبل لسانه:
“هل فقدتكِ للأبد؟”
ترددت كأن الإجابة تستدعي الرجوع إلى ألف يوم مضى ثم قالت بصوت أشبه بالهمس:
“حين تسقط الثقة، لا تنهار دفعة واحدة… بل تتفتت كأطراف التماثيل القديمة دقيقة بعد دقيقة حتى لا يتبقى سوى ظل من حجر.”
صمتَ ظافر إذ لم يجد ما يقوله فالحقيقة تُقال دائمًا في وجهه دون تزييف.
اقترب أكثر يمد يده نحوها لكنها انسحبت قبل أن تصل يده إلى ذراعها، تصرخ فيه بحدة:
“لا تلمسني، ليس لأنني أكرهك… بل لأنني أحببتك بما يكفي لأعلم أن لمستك الآن ستقتلني أكثر مما أنقذتني.”
ثم خطت مبتعدة وتركت خلفها عطرًا يشبه الرحيل وصدى كلماتها ظل معلقًا في الهواء كأنها لعنة لا تُنسى، يعلم أنها الآن خارج السيطرة وأنها لو كانت في قمة توازنها ما كانت لتتفوه بتلك الكلمات التي كشفت عن مسرحيتها إنها لم تنسى، لم تفقد الذاكرة إنها تتناسى وغداً لن تتذكر مما قالته شيئًا فهي مخمورة.
في الخارج كان المطر ينهال كأنه انتقام السماء من الأرض، شوارع المدينة تنبض بالحيرة، تلمع من انعكاس المصابيح، وتشهق تحت عجلات السيارات.
سيارة كاديلاك سوداء كأنها شبح أنيق يتسلل خلف الذاكرة ظهرت من العدم وأخذت تتبع سيارة سيرين بصمتٍ مريب، وظلت خلفها، لا تتجاوزها، ولا تقترب كثيرًا بل اكتفى سائقها بالمراقبة.
داخل السيارة جلس ظافر يرقب سطور الغياب تتشكل أمامه من جديد، ولم يحرك ساكنًا حتى ابتلعت المدينة سيارة سيرين بين طرقاتها وعادت وحدتها تغلفها من جديد.
مدّ يده ببطء كأن الهاتف قطعة من الجليد والتقطه ثم طلب رقماً يحفظه في ذاكرته أكثر مما يحفظه في جهازه، يقول بإرهاق:
“ماهر، كيف تسير الأمور؟ وماذا عنعالتحقيق؟”
جاءه صوت ماهر مثقلاً بالقلق ومموّهًا بالتحفظ:
“هناك يد خفية تعبث بالملف، شخصٌ ما يُحاول عرقلة تحقيقنا… لكن رجالنا اكتشفوا أن السيدة سيرين قد سافرت إلى أثينا بعد مغادرتها البلاد، وما زلنا نغوص في الوحل ونحتاج إلى مزيد من الوقت لنصل إلى الحقيقة.”
أطبق ظافر شفتيه كأنه يحبس إعصارًا ثم قال بفتورٍ مريب:
“حسنًا.”
وأغلق الخط.
ألقى الهاتف جانبًا ثم انحنى إلى الخلف في مقعده وكأن ظهره يُكابد ثقل مدينة كاملة من الأسرار.
عضّ على شفاهه بغيظٍ مكبوت وعيناه تشرقان بدهشة مبهمة.
**أثينا!**
المدينة التي غابت عنها الشمس لتستقر في قلب سيرين ولم تترك له غير العتمة.
لم يكن يتخيل أن أنفاسها كانت تسكن هناك طيلة هذه السنين بينما هو يبحث عنها كمن يبحث عن ضوءٍ في بئرٍ من ظلام.
كم من الطرق سلك؟ كم من الوجوه قابل؟ كم من الحقائق المزيّفة صدّق؟
كل ذلك بينما هي تُخفي نفسها داخل لوحة زيتية في زاوية معتمة من العالم.
ومنذ أن رأى الشرر في عينيها ذلك اليوم وراقب ارتباكها وهي تحاول تغليف الحقيقة بالهدوء أيقن… أن سيرين لم تعد كما كانت.
أيقن أنها تخفي شيئًا… شيئًا يكبر في الظل يلتف حولها كالأفعى ويمنعه من الاقتراب.
في تلك اللحظة التي أسدلت فيها سيرين الستار على مكالمتها مع نوح وزكريا اخترق صوت الهاتف سكونها مجددًا.
الرقم مألوف والنبرة أكثر وقاحة من أن تُنسى.
“أنا خارج منزلك… هيا نلتقي.”
جاءها صوت دينا حادًا كالسيف حين يُسلّ من غمده بلا مقدمات.
خارج أسوار القصر الفاره الذي منحه لها كارم مؤقتًا كملجأ من رياح الماضي توقفت حافلة صغيرة نزلت منها دينا كأنها قادمة من مسرحية عبثية لتُكمل فصلها الأخير.
وقفت دينا أمام القصر تتأمل المكان بنظراتٍ حادة ثم قالت بنبرة تغلفها الغيرة في عباءة المديح:
“مكان مذهل حقًا… لا يقل روعة عن قصر تهامي.”
ابتسمت سيرين بتهكماً فهي قد علمت مؤخرًا أن دينا تسكن الآن قصر تهامي، ذاك الحُلم القديم الذي اشترته دينا بعد أن لمع نجمها في سماء الشهرة والثروة،
لكن سيرين لم تكن ممن ينخدعون ببريق الذهب… كانت دائمًا تقرأ ما خلف الكلام.
اقتربت منها، ورفعت حاجبًا بنظرة ساخرة، وقالت:
“حتماً لم تدعيني للخروج فقط لتتبادلي الحديث عن العقارات، أليس كذلك… آنسة دينا؟”
تقدّمت دينا بخطوةٍ أخرى، وكأنها تتهيأ لضربة غير متوقعة.
“بالطبع لا…” أجابت، ثم أردفت:
“أنا هنا لأطلب منكِ… أن تُغادري مجموعة نصران وأن تعودي من حيث أتيتِ.”
لحظتها لمعت عينا سيرين بوميضٍ بارد يشبه انكسار الضوء على شظية زجاج فقد فهمت الرسالة واستشعرت الرعب في كلمات غريمتها أكثر مما تنطقه نبرتها المرتجفة.
كما علمت سيرين أن كل ما فعله ظافر في ذلك اليوم معها لم يمر على دينا دون أن يترك ندبة في وجدانها… أجل فهي أتت إلى هنا الآن لأنها تخشى أن يسقط ظافر من جديد في فخ سيرين.
سيرين بابتسامة مقتولة النبض ردّت بسخرية هادئة:
“ولماذا عليّ أن أفعل ذلك؟”
كلماتها خرجت كالسُمّ الممزوج بالعطر.
في تلك الأثناء لم تجد دينا ما تردّ به فتجمّدت نظرتها كمن باغتته مرآة حقيقته.
أما سيرين جابهتها بثقة من يقرأ مخاوف عدوّه بصوتٍ عالٍ، وهمست باستهزاء:
“أأنتِ خائفة؟”
ارتبكت دينا وشعرت بدمها يتحول إلى صقيع تحت جلدها ثم انفجرت بنبرة انفعالية:
“ممَّ أخاف؟! أتظنينني ما زلتُ تلك اليتيمة البائسة التي لا تملك شيئًا؟ لديّ كل شيء الآن!”
صمتت للحظة ثم تابعت وقد تحوّلت نبرة الحسد إلى مرارة:
“كنت أحسدكِ يا سيرين… نعم، أعترف بذلك لكن الآن؟ أنا أشفق عليكِ والدكِ مات وعائلتكِ تحطمت وأمكِ أصبحت شبحًا يائسًا!”
خطت للأمام ورفعت يدها تُمسك بكتف سيرين كأنها تحاول أن تُعيد توجيه صدمتها نحو الجسد مباشرة، وقالت بابتسامة مشوهة اتسعت على شفتيها كقناعٍ زائف:
“هل تعرفين بعد كل هذه السنوات… أين ذهبت أمكِ؟ وأين اختفى أخوكِ؟”
اقتربت أكثر كأنها تُهمس في أذنها بجرح قديم:
“إن كنتِ لا تودين أن يعرفا أنكِ عدتِ… فاخرجي من هنا وعودي إلى الظل الذي خرجتِ منه.”
ثم همست بكلماتها الأخيرة كطعنة مسمومة:
“كلبٌ ضالّ مثلكِ… لا يجب أن يعثر على طريق العودة هل تفهمين؟”
لم تبتسم سيرين ولم تهتزّ حتى رمشُ عين بل ظلت واقفة كجدارٍ قديم يرفض أن يسقط رغم المطر والعواصف.
نظرت إلى يد دينا المستقرة على كتفها وكأنها تلمس جُرحًا لم يُشفى ثم همست بهدوء قاتل:
“انزعي يدكِ… قبل أن تندمي.”
لكن دينا المأخوذة بنشوة الوهم لم تتراجع.
عندها تحركت سيرين بخفة مفاجئة وأزاحت يدها عنها كمن ينفض رماد ماضٍ ملتصق بثوبه الأبيض ثم اقتربت خطوة… فخطوة حتى أصبح أنفاسها تلامس وجه دينا ونظرتها تخترق عمقها كما يشق الخنجر لحمًا حيًا، وقالت بنبرة قوية كأنها آتية من جوف العاصفة:
“أتظنين أني نسيت؟ نسيت كيف كنتِ تزحفين خلف كل فتات أتركه؟ كيف كنتِ ترتدين ظلي وتتباهين أنه فستانك الجديد؟”
شهقت دينا لكن لم تنبس ببنت شفة.
سيرين وعيناها تشعّان بنارٍ مكبوتة:
“كنتِ تحسدينني؟ بل كنتِ تنسجين حياتك من نُتَف حياتي، واليوم فقط تجرؤين على الشفقة؟ إذًا دعيكِ من الأم والأخ ودعيكِ من نصران والمجموعة وكل هذه الأسماء… وسأقولها لكِ بوضوح: إن ظافر ما زال ينظر إليّ كما ينظر الغريق لطوق نجاته… وإن عدتِ إليه بألف قصر ووشاح من ذهب، سيظل يبحث عن عينيَّ.”
ارتعشت شفتا دينا لكنها تماسكت كمن يرفض أن تُفضح هشاشته أمام عدوه وقالت بتحدٍّ مصطنع:
“أوه… إذًا الأمر كله يتعلق بظافر؟! كنتُ حمقاء إذن حين صدقت أنكِ قد فقدتِ ذاكرتكِ!”
ضحكت سيرين بخفوت لكنها كانت أقرب لقُبلة وداع ساخرة.
“أنا فقدت ذاكرتي دينا، نعم لقد فقدتها… ولكن هناك أشياء لا تنسى، الجراح لا تنسى، والقلوب لا تُباع أمّا أنتِ… فكنتِ دومًا على استعدادٍ لبيع كل شيء حتى ذاتك الرخـ ـيصة.”
تراجعت سيرين للخلف خطوة ثم أضافت وقد تحولت نبرتها إلى هدوء بارد يلسع:
“هذا آخر لقاء بيننا… المرة القادمة، إن رأيتكِ هنا فلن أتحدث سأفعل فقط.”
قالتها ومن ثم أدارت ظهرها وتركت دينا واقفة تحت ظل القصر كدمية ابتلت بالمطر ولم تعد تصلح لشيء… وفي عيني سيرين لمعة تشبه الشرر… شرر امرأة قررت أن تنتقم ولكن على طريقتها.