الفصل 14
لم تكن تعلم إن كان الخوف قد كبّل أطرافها أم أن جسدها ببساطة هو من خذلها، أحبته بما وهبها الله من إحساس أنثى مال قلبها لرجلٍ وبالرغم من شعورها باستجابة حواسه لقربها إلا أن تلامسهما كان أشبه بعقابٍ عنه حب، جاهدت ألا تبادله… ليس هذا ما تريده… إنها تريد علاقة روحانية… فقط ترغب في أن يشعر بها… فقط يشعر.
لكن سيرين لم تستطع سوى أن تتحرك بحذر لتحيط بطنها بذراعيها كمن يحمي ما تبقى من قلبه المتهالك.
مرّت الثواني ببطء كأنها دهور حتى توقّف ظافر أخيرًا، كان صوته المتقطع يُثقل الهواء بينهما.
“لا تجعليني أغضب، سيرين.”، قالها بأنفاس متلاحقة، كمن يحاول السيطرة على غضب كامن تحت جلده.
لم تستوعب كلماته، كانت نظراتها ضائعة، فارغة وكأنها تبحث عن إجابة في فراغ الغرفة.
همست بصوت متحشرج:
**”ألم تقل أنك لن تلمسني أبدًا؟ ماذا تعتقد أنك تفعل الآن؟”
وما إن لفظت كلماتها حتى اختبأت تدفن رأسها بالوسادة خلفها تغرق وجهها في نسيجها، كمن تأمل في أن يبتلعها القماش ويخفيها عن هذا الواقع.
لم يلحظ ذلك الجاحد شحوب ملامحها، لم يرَ ارتجاف أصابعها.
“وهل تعلم حبيبتك بهذا؟ لو علمت، لغضبت، أليس كذلك؟” قالتها بنبرة خالية من أي مشاعر، وكأنها تلقي بتساؤل عابر، لكن الكلمات كانت تحمل تحت سطحها ألف طعنة دفينة.
لطالما اعتقدت سيرين أن ظافر قد يكون قاسيًا، بارد القلب، لكنه كان وفيًا… وفيًا لحبّه على الأقل… أما الآن فلم ترَ فيه إلا رجلًا لا يُطاق، شخصًا يثير اشمئزازها.
وعندما نطقت بكلمة “حبيبتك”، لم يكن هناك شك في أنها تقصد دينا.
حدّق فيها ظافر بعينين تضيقان غضبًا، ثم ألقى كلماته بسخرية قاتلة:
“وهل فكرتِ أنتِ في ذلك عندما كنتِ مع كارم؟”
جاءت كلماته كخنجر مغروس في صدرها، حاد، بارد، لا يعرف الرحمة.
ازداد وجهها بهوتاً حتى كادت ملامحها تذوب تحت وطأة الذهول، لكن ظافر لم يكن من أولئك الذين يدفنون نيران غضبهم تحت رماد الصمت، لم يكن رجلًا يعرف كيف يكبح سخطه خاصةً حين تكون الواقفة أمامه هي سيرين.
اقترب منها بخطوات بطيئة متلذذًا بتأثير كلماته عليها، ثم مال قليلًا وهو يغمغم بنبرة تقطر سخرية:
“العجب كل العجب… كيف يمكن لرجل أن يرى النحيلات جذابات؟ يا له من غبي ذلك الكارم.”
ترك كلماته تتسلل بينهما كأصفاد غير مرئية تلتف حولها تُضاف إلى أغلالها الثقيلة تزيدها انكسارًا فوق انكسار.
كان قد انتهى بالفعل من ارتداء ملابسه حين نطق بذلك وكأن الأمر لم يكن يستحق حتى أن يلتفت إليه مرتين.
تردد صدى صوته داخلها كصفعة خفية، فيما راحت أذناها تطنّان وكأنهما تعترضان على كل ما يحدث.
لحظات وشعرت بجسدها ينهار، هناك شيء ما ينفلت منها يتدفق بصمت تحتها، لكن عقلها كان مشوشًا إلى حدٍ يمنعها من استيعاب التفاصيل.
وقبل أن يدير ظافر ظهره ليغادر تسللت كلماتها المرتعشة من بين شفتيها كاعتراف خجول أو ربما كسؤال لم يكن له مكان في هذا المشهد البارد:
“السيد نصران… هل ستحزن إذا مت؟”
توقف للحظة كأن السؤال أضحكه أكثر مما فاجأه لكنه لم يمنحها إجابة، بل ألقى أمره الأخير وكأنه يُلقي بحكم لا رجعة فيه:
“انتقلي إلى قصري غدًا.”
لم تتمكن من استيعاب كلماته أو ربما لم يكن لديها القوة الكافية للرد.
وحين غادر، انسحبت إلى الخلف، تجذب عليها الغطاء بيدين مرتعشتين فجحظت عيناها حالما التقطت نظراتها ذاك اللون القرمزي الذي يلطخ ساقيها، يروي الأرضية أسفلها بشهادة صامتة على ما حدث.
لم يكن ظافر ليعلم ما جرى بعد مغادرته، لم يكن ليسمع النبضات المرتبكة التي تسللت إلى الشارع في صورة صفارة إسعاف تخترق جدران المبنى الذي تقطنه سيرين معلنةً أن الليل لن ينتهي بهدوء.
في صباح اليوم التالي كانت سيرين مستلقية على سريرها في المستشفى وملامح الإرهاق جاثمة على وجهها، بينما كان كارم يجلس إلى جوارها يراقب أنفاسها المتلاحقة بعينين مثقلتين بالقلق.
لم يكن يفكر إلا في شيء واحد:
-ماذا لو لم تصل إلى المستشفى في الوقت المناسب؟ كانت ستفقد طفلها… وربما كانت ستفقد نفسها أيضًا.
تسلل إلى روحها يقين صارم كأنه وحي من الألم بأن هذه الحادثة لم تكن سوى ناقوس أخير يدق في رأسها… لقد حان وقت ترك ظافر… ليس هناك مجال للتردد أو التأجيل فحياتها لم تعد تحتمل المزيد من الانهيارات.
رنَّ هاتفها بنغمة الإشعار كأن صوته جاء ليقتحم لحظة التأمل الثقيلة فمدَّت يدها بتكاسل والتقطته وما إن وقعت عيناها على اسم المرسِل، حتى تسارعت نبضاتها.
إنها رسالة من سارة… التي اختفت تمامًا بعد هروبها إلى الخارج.
“سيرين! بما أنكِ لا تزالين على قيد الحياة، ساعدي أخاكِ… اذهبي لتسوية الأمور مع السيد خليل… سنكون ممتنّين للغاية.”
تجمدت أناملها فوق الشاشة قبل أن تومض عيناها بوهج بارد.
بلا تردد ضغطت أناملها على زر الحذف… فلا مكان للعودة ولا مجال للاستغلال مجددًا… سارة وتامر لن ييأسا سيواصلان دفعها نحو الحافة وسيستنزفانها حتى آخر قطرة ولكنها هذه المرة لن تكون طُعمًا سهلًا… فقد انتهى زمن الاستسلام.
عاود رنَّ صوت الإشعار في هاتفها مرة أخرى فانقبض قلبها قبل أن تُلقي نظرة خاطفة على الشاشة.
إنها رسالة جديدة لكن هذه المرة من شادية… ترددت سيرين للحظة ثم تنفست بعمق وفتحتها.
“سيرين، يجب أن تعرفي كم يكرهكِ ظافر… السبب الوحيد الذي يمنعه من تطليقكِ هو أنه يريدكِ أن تتعذبي! أرجوكِ اختفي من هذا العالم… أتوسل إليكِ!”
شعرت سيرين بغصة في حلقها وكأن الكلمات التفت حول عنقها كأفعى خبيثة تحاول خنقها ببطء… شهقت دون أن تشعر فارتعشت أطرافها وسقط الهاتف من بين يديها على الطاولة بصوت مكتوم.
في هذه اللحظة دخل كارم ومن ثم لمح الهاتف الملقى فوقع بصره على نص الرسالة التي ما زالت الشاشة تشع بها.
تلبدت ملامح كارم وعقد حاجبيه بانزعاجٍ ظاهر، ثم تمتم بامتعاض:
“هؤلاء الناس وقحون لدرجة تُثير الغثيان!”
أغلقت سيرين الهاتف سريعًا كأنها تحاول دفن الألم تحت غطاء الصمت…. ثم رفعت رأسها نحوه بابتسامة شاحبة أشبه بقناع هشٍّ تخبئ خلفه عاصفة من الانكسار.
“لكن هناك أشخاصًا طيبين أيضًا… شكرًا لك، كارم.”
نظر إليها بتمعن فرأى في عينيها ما لم تنطق به شفتيها… تلك الابتسامة لم تكن إلا جدارًا واهنًا ينهار في صمت.
شعر كارم بمرارة تجتاح صدره… كم من الألم احتملت؟ كم من الظلم عانت؟ لماذا ما زالت تقف أمامه بذلك الحذر المفرط رغم أنها لم تعد مجرد صديقة؟
جلس أمامها ساحبًا الكرسي بصوت خافت وأسند كوعيه على الطاولة لينظر إليها نظرة حملت أكثر مما قاله لسانه.
ثم أردف بهدوء، وكأنه يختار كلماته بعناية:
“ليس من الضروري أن نقول دائمًا شكرًا بين الأصدقاء.”
أومأت سيرين برأسها ببطء، شاردة للحظات وكأنها تزن قرارًا ثقيلًا في عقلها.
ترددت ومن ثم ازدردت ريقها، وأخيرًا انطلقت كلماتها بصوت خافت:
“كارم… هل يمكنك مساعدتي؟”
كانت يدها ترتعش قليلاً، وعينيها تتشبثان به وكأنه طوق نجاة أخير… في تلك اللحظة، لم يكن هناك أحدٌ في العالم يمكنه إنقاذها… سواه.
*
عاد ظافر إلى قصره بعد يومٍ طويلٍ من العمل يسير بخطواتٍ مثقلة وكأنها تحمل عبء الأفكار التي لم تجد لها مفرًّا من رأسه.
كان الأمل يساوره في أن تكون نيران الغضب التي اشتعلت في قلب سيرين تجاهه قد خمدت، وأنها ستعود إليه كما اعتاد منها.
لكن ما استقبله لم يكن سوى العتمة، صمتٌ ثقيل خيَّم على المكان يشي بأن القصر قد فقد نبضه المعتاد.
أغلق الباب خلفه، وتقدم إلى الداخل بتثاقل قبل أن يمد يده إلى ربطة عنقه يجذبها بانفعالٍ وكأنه يحاول أن يحرر نفسه من قيود الإحباط التي تكبله.
ألقى بجسده فوق الأريكة مطلقًا زفرةً طويلة وما إن أغمض عينيه حتى بدأ رأسه ينبض بألمٍ مفاجئ وكأن الأفكار التي تتصارع داخله قررت أن تتخذ من جمجمته ساحةً لمعركةٍ لا تنتهي.
رفع يده إلى وجهه يضغط على جسر أنفه في محاولةٍ يائسة لتهدئة ذلك الألم، لكن شيئًا آخر تسلل إلى وعيه… وجه سيرين… ذلك الوجه الذي كان يشبه صفحة ماءٍ ساكنة توحي بالطمأنينة لكنها تخفي في أعماقها تياراتٍ جياشة لا تُرى بالعين المجردة… لم تكن جميلةً فحسب، بل كانت فتنةً متجسدة، لا بجمالٍ ناعمٍ تقليدي بل بجاذبيةٍ حادة كحد السيف تأسر العيون وتفرض حضورها بقوة.
تداعت الذكريات أمامه كفيلمٍ قديم، يتوقف عند مشهد لقائهما الأول… كانت سيرين آنذاك فتاةً هادئة، ينسدل شعرها في جديلةٍ أنيقة تتراقص مع كل حركة تخفي خلف خجلها بريقًا غامضًا في عينيها كأنهما تخفيان سرًّا لم يحن موعد الكشف عنه بعد.
لكن أين اختفى ذلك البريق؟ متى اختفت ابتسامتها التي كانت تضيء حتى أكثر اللحظات قتامة؟
شعر بانقباضٍ في صدره، وعقد حاجبيه في عبوسٍ عفوي وكأن الإجابة التي يبحث عنها كانت قابعة في مكانٍ ما داخل نفسه لكنه لم يجرؤ على مواجهتها.
وقبل أن يتمكن من الغرق أكثر في دوامة الماضي السحيق قطع رنينٌ حادٌ سكون اللحظة، انتفض من مكانه والتقط الهاتف، ليظهر على شاشته اسم طارق.
جاءه صوت صديقه عبر السماعة متوترًا على غير عادته كمن يحمل خبرًا لن يُسرَّ لدى سماعه:
“ظافر… أشعر بالخوف، هناك شيء سيء حدث لسيرين وذلك فور خروجك من منزلها ليلة أمس.”
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة،