الفصل 16
ها هي المصادفة تعبث بمصائرهم كأنها يد القدر الخفية التي تكتب فصول الحكاية دون إذنٍ من أبطالها.
لا يمكن أن تكون إلا صدفة… لا بد أن تكون كذلك!
لكن، إذا كانت سيرين هي من أنقذت حياة طارق في ذلك اليوم، فلماذا التزمت الصمت كل هذه السنوات؟ لماذا لم تخبره ولو لمرة واحدة؟
وإن كانت هي حقًا، فما الذي فعله بها الزمن حتى باتت مجرد ظلٍ باهت؟ كيف سحقتها الأيام حتى صارت ذكرى عابرة بدلاً من أن تكون اسماً محفوراً في وجدانه؟ كيف انتهى بها الحال ضحية لمن كان أولى الناس بحمايتها؟
الندم… ذلك الشعور الثقيل الذي بدأ يتسلل إلى روحه كخنجرٍ صدئ.
ألقى طارق التقارير الطبية جانبًا، ثم ارتد إلى الوراء مستندًا إلى الكرسي، عينيه مثبتتان على سقف الغرفة بينما تتلاطم الأفكار داخله كأمواجٍ عاتية ترفض أن تهدأ.
بدا الليل طويلاً، مرهقًا، ممتدًا كعقودٍ متتابعة وكأن الزمن رفض أن يمنحه مهربًا من دوامة الأسئلة التي تنهشه.
وحين انبثق ضوء الفجر من رحم الظلام، استجمع شتات ذهنه والتقط هاتفه، طلب رقم دينا بصوتٍ بدا خافتًا لكنه مشحون بصرامة لا تخطئها الأذن:
“دينا… علينا أن نتحدث. هناك أمرٌ لا يحتمل التأجيل.”
بعد ساعات، في أحد المطاعم الفاخرة جلست دينا أمامه.
كانت تبدو متألقة كعادتها بفستانٍ أنيقٍ يعكس ذوقها الرفيع، ومعطفٍ أزاله النادل بحركةٍ سلسة.
وقع نظر طارق على وجهها الناعم المشرق… بلا أثرٍ لأي ندوب.
ندوب… حادثة… دماء.
أربع سنوات مضت، حين كانت الحياة تتلاعب به كدميةٍ واهية… ضجت رأسه بذكريات أليمة حادث سيارة مروّع، المعدن يلتوي، الزجاج يتحطم، الألم ينهش جسده، الوعي يتلاشى رويدًا رويدًا.
لكنه يتذكر بوضوح تلك اليد الصغيرة… أنامل مرتعشة تمتد عبر النافذة المهشّمة تحاول فتح الباب بعزمٍ لا يليق بجسدٍ نحيل.
فتاة شجاعة… دماء تنزف بغزارة… جرحٌ غائر على ذراعها… شظايا زجاج اخترقت جلدها. يتذكر صوت محمود وهو يقول يومها إن الجرح يحتاج إلى غرزٍ عاجلة وإن تلك الندبة لن تزول أبدًا.
لكن… أين ذهبت الندبة الآن؟
رفع نظره إليها مجددًا، وعيناه غارقتان في التساؤل، في الشك، في ارتباكٍ لم يجد له تفسيرًا بعد.
لاحظت دينا نظراته المتفحصة، فحاولت أن تتماسك، أن تبقى طبيعية، لكنها لم تستطع إخفاء ارتعاشةٍ خفيفة في يديها.
“طارق؟ قلت إن لديك أمرًا مهمًا لتخبرني به. ماذا هناك؟”
انتفض من شروده كمن أفاق من حلمٍ ثقيل، وأدار وجهه بعيدًا وكأنه يهرب من عينين تترقبان ما سيقوله بنفاذ صبر… وحين تكلم، انسلّ صوته باردًا، قاطعًا كحدِّ السيف، يحمل بين طياته صرامة لم تألفها منه من قبل:
“سيرين… ماتت.”
تجمدت ملامح دينا، واتسعت عيناها في صدمةٍ مفتعلة وكأن وقع الكلمات ارتطم بها بعنفٍ لم تتوقعه.
شهقت، ثم تلعثمت تبحث عن الكلمات وسط العاصفة التي لم تهب يومًا في داخلها:
“متى؟ كيف… كيف حدث ذلك فجأة؟!”
كانت نبرتها لا تخلو من الدهشة والذهول، لكن بين الشقوق التي لم ترممها الصدمة تسلل شعور آخر أكثر خبثًا… راحة.
نعم، راحة دافئة كنسيمٍ ليليّ يزيح عن كاهلها عبءَ صخرةٍ جثمت طويلًا على صدرها… موت سيرين كان المفتاح الأخير، الباب الذي أغلق أخيرًا ليمنحها طريقًا ممهدًا نحو ظافر، دون عوائق… دون أشباح.
قال طارق بصوتٍ خالٍ من أي انفعال وكأنه يسرد تقريرًا طبيًا لا يعنيه في شيء:
“حدث ذلك بالأمس. نزفت حتى آخر قطرة، ولم تفلح أي محاولة لإنعاشها.”
رفع طارق كأس النبيذ أمام عينيه، وراح يراقب الدوامات الحمراء وهي تدور في الكأس كأنها تحكي قصة نزيفها الأخير وذلك قبل أن يرفعها إلى شفتيه ويشربها دفعة واحدة كمن يبتلع ذكرى لا يريد الاحتفاظ بها.
لكن، عبر زجاج الكأس التقط وميضًا… شرارة خاطفة في عيني دينا، برقٌ عابر لم يكن من المفترض أن يراه، لكنه لاحظه بوضوح… فرحٌ مختبئ كطيفٌ سريع اختفى في اللحظة التالية لكنه كان هناك للحظة… وكان كافيًا.
تنهدت دينا ببطء وأسقطت جملتها كما لو كانت حقيقة مطلقة، صوتها مشوب بنبرة فلسفية مصطنعة، كمن يستدرج نفسه ليبرر القدر:
“أعتقد أن هذا هو المصير المحتوم لشخص گ سيرين.”
ثم تابعت دينا وقد تأججت عيناها ببريق متعالٍ، كأنها تقف على منصة القضاء، تصدر حكمها بلا تردد:
“وُلدت سيرين وفي قبضتها مفتاح الحياة التي يحلم بها الجميع. كل شيء جاءها بلا عناء، حتى زواجها من ظافر… لم يكن سوى امتدادٍ لسطوة اسمها ونفوذ عائلتها. ربما… كان موتها صورة من صور القصاص، عقوبة خفية لإعادة التوازن المختل في هذا العالم.”
القصاص…
ترددت الكلمة في عقل طارق كوقع أقدامٍ على ممرٍّ طويلٍ في ظلام دامس، لكنها لم تكن مجرد صدى بعيد، بل صرخة مكتومة تزلزل أعماقه.
للمرة الأولى، تسلل إليه إحساسٌ بأن كلمات دينا تخفي بين حروفها ظلالًا مرعبة.
هل يعقل أن تكون جريمة سيرين الوحيدة… أنها وُلدت في كنف الثراء؟
كان يعلم يقينًا أن زواج سيرين وظافر لم يكن سوى صفقة، التقاء مصلحتين في قالبٍ مصقول بالمظاهر.
ومع ذلك، لم يكن هناك من يستطيع إجبار ظافر على شيء لا يرغب فيه؛ فكيف تجرؤ دينا على اعتبار موت سيرين استحقاقًا؟! أي عبثٍ هذا الذي تنطق به؟!
في تلك اللحظة، أدركت دينا أنها انزلقت في زلة كلامية، فاندفعت على الفور لتصحيح موقفها كمن يحاول إنقاذ كأس كريستالي من التحطم على الأرض.
قالت بلهجة مفعمة بالتبرير:
“طارق، أنت تعلم أنني كنت أقصد سيرين فقط حين قلت ذلك، لم يكن في نيتي التعميم… في النهاية، هي من كانت تتقن المكر إلى حد الإتقان.”
اكتفى طارق بهمهمة خافتة أشبه بصدى أفكار تتصارع داخله… رفع كأسه إلى شفتيه يرتشف القليل، ثم صب لنفسه كأسًا آخر كأنه يحاول أن يغسل داخله من آثار الكلمات العالقة في ذهنه.
تسلل إليه سؤال خبيث، كما يتسلل الدخان عبر شقوق باب مغلق:
هل كانت سيرين تخطط حقًا؟
راح يغوص في بحر شكوكه مستعيدًا كل ما قيل عنها… ثم أدرك في النهاية أن دينا هي المصدر الوحيد لهذه الروايات عن ألاعيب سيرين؛ إذ لم يكن قد شهد بعينيه أيًا من تلك الحيل التي زُعِمَ أنها تمارسها.
نعم، لم يرَ من سيرين سوى حبًا عارمًا لظافر، حبًا جعلها تلتف حوله كما تلتف الكرمة حول جذع شجرة… كانت على استعداد لفعل أي شيء لإرضاء عالمه، حتى لو شمل ذلك هو نفسه.
لكن… هل يُعد ذلك مخططًا؟!
تلاشى طعم النبيذ في فمه فجأة كأن الشك قد امتزج بالسائل الأحمر فأفقده مذاقه.
لقد وضع طارق ثقته في دينا لأربع سنوات كاملة كانت أقرب إليه من ظله، من المستحيل أن تكون قد خدعته… أليس كذلك؟ كيف يمكن لإنسانة خاطرت بحياتها من أجله أن تكون شخصًا سيئًا؟
خرج صوته أجشًا على غير المتوقع كأنه يخرج من جوف قلب مثقل بالأفكار:
“دينا، مؤخرًا، بدأت تراودني الأحلام… عن الماضي. أراكِ فيها… تنقذينني. كنتِ تقولين لي ألا أخاف، وأن كل شيء سيكون على ما يرام.”
صمت للحظة، ثم تابع بصوت أكثر خفوتًا، لكنه محمل بوزن الذكريات، وبات على مشارف اليقين التام بأنها مجرد وهم، ولكن لابد من أن يتأكد:
“نجوت بفضلك، أتذكرين؟”