رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الثاني والعشرون

عشق لا يضاهى

الفصل 22

في دهاليز الظل والغموض حيث لا تعرف الرحمة طريقًا إلى القلوب المتحجرة انقطع صوت طارق وهو يشرح، إذ دوّى صوت باب يُفتح بعنف، تبعه سقوط جسد مُنهك على الأرض. 

التفت طارق، وبعينين متسعتين شهقت روحه قبل أن يلفظ اسمه بصمت… خليل! 

كان الرجل العجوز أشبه بصفحات كتاب مهترئة تحمل بين طياتها حكايات من الألم، جسده كان مسرحًا لجروح لم تلتئم وكأنه خارطة مرسومة بحد السكين. 

قبل يومين قد أمر ظافر رجاله بمطاردة سارة وتامر اللذين فرّا إلى الخارج، وحينها انكشف السر…

سيرين!
كانت من المفترض أن تكون زوجة خليل، لا كارم!

تلك هي الحقيقة التي قلبت الطاولة وأشعلت فتيل الغضب فما كان من ظافر إلا أن انتزع خليل من بين ظلال النسيان وألقاه في جحيمه الخاص. 

**مر يومٌ كامل من التعذيب إذ أن جسد خليل كان يحكي ما عجز لسانه عن قوله ومع ذلك، ظل صامدًا يردد بعنادٍ مُتهالك:

“لا أعرف… لا أعلم أين ذهبت سيرين”.** 

نظر إليه ظافر بعينين كأنما اختزلتا ليلًا لا ينتهي.

صمتٌ ثقيل، قبل أن يخترقه صوته المنخفض الأشبه بهمس الموت: 

— “هل ما زلت ترغب في الزواج من سيرين؟” 

كانت كلمات ظافر كخنجر يدار بحرفية موحشة داخل جراح غريمه، فانحنى خليل برأسه بينما ظل جسده يرتعش كغصن هش في مهب العاصفة: 

— “لا… لا، لا أجرؤ على ذلك…” 

لحظات وكان يُسحب خارجًا، خطواته المتعثرة تترك خلفها أثرًا باهتًا لوجوده وما من حاجة للتساؤل عما سيحدث له بعد ذلك… 

أما ظافر، فقد ظل ساكنًا، وجهه قطعة من حجر لا تنطق بشيء، لكنه التفت إلى طارق، بعينين لا تخفيان الاتهام. 

— “هل دافعت عنها للتو؟”   

انعقد حلقُ طارق كأنه يقبض على الكلمات قبل أن تخرج لكنه لم يُنكر الأمر بل قال بصوت خافت يكاد يهمس به لنفسه: 

“أظن فقط… أنه لا داعي للاستمرار في معاملتها بهذا السوء.” 

تجمدت يد ظافر على القلم واشتدت أصابعه حوله ببطء كمن يعصر عنق حقيقة مؤلمة حتى برزت عروق يده كأفعى تتلوى تحت جلده، ومن ثم رفع رأسه ببطء وعيناه تحملان ظلالًا داكنة من غضب دفين ثم قال بصوت جاف أشبه بصليل سكين على زجاج: 

“لقد عاملتني بسوء أولًا.” 

ثم وقف وكأن الجلوس لم يعد يتسع له، واقترب من طارق ينحني بجذعه قليلًا نحوه، يسأله بحدة: 

“طارق، لا تقل لي أنك تصدق فعلًا أنها ماتت؟” 

ثم ابتسم ابتسامة ساخرة كمن يلوك سخرية مُرّة بين أسنانه، وأردف: 

“أما سمعت يومًا أن الشر لا يموت؟ بل يعيش إلى الأبد… شخص مثلها لا يمكن أن يُهزم بالموت.” 

كان صوته يحمل ارتجافة خفية كأن عقله يرفض أن يصدق ما تنطق به شفتاه، كلماته الحادة عنها لم تكن سوى محاولة بائسة لخداع ذاته قبل أن يخدع الآخرين. 

وفي لحظة، شقَّ صوت المنبه سكون الغرفة كطعنة في صدر الوقت.

نظر ظافر إلى الهاتف، عقرب الثواني يركض بجنون وكأن الزمن يفرُّ منه، ودون أن يودّع صديقه التقط معطفه وانسحب من المكتب بخطوات ثقيلة تاركًا طارق وحده وسط فراغٍ بارد تتردد فيه أصداء الكلمات التي جميعها تتحامل على تلك المسكينة فقط كي يعود إلى قصره الذي كان يهجره في وجودها.  

قبض طارق على القلادة الكريستالية كأنما يحاول كسر الزمن بين أصابعه أو ليتخلص من آخر خيط يربطه بما كان… حتى بدأت راحة يده تنزف، لون الدم امتزج بوهج الكريستال كأنه ختم مقدس… لم يفرج طارق قبضته إلا عندما أخبره الألم أن الحياة لا تستجيب للقوة، بل للخذلان. 

عندما خطا ظافر خارجًا، كان الليل قد فرش عباءته فوق المدينة كأنما يلفظ سرًا في أذنه، وهناك على قارعة الطريق كان جسد خليل ملقى كما لو أن الحياة قد ضجرت منه ورمته بلا اكتراث.

فعلياً كان الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة وكل شهيق منه يخرج بصعوبة بالغة وكأنه يكتب سطرًا جديدًا في وصيته غير المكتملة.

غمغم ظافر بصوت جامد كحجر على صدر غريق، يقول لرجاله:

“أعيدوه.” لم يكن يأمر… بل كان يكتب مصيرًا. 

في قصر آل نصران، صمت غير مألوف تسرّب في الأروقة.

لم يكن ذلك الهدوء العادي بل كان يشبه لفظة أخيرة لحُلم قُطع قبل أن يكتمل.

وسط غرفة المعيشة كانت هناك حقيبة سفر حمراء زاهية بلون لا ينتمي إلى هذا المكان كأنها علامة على وجودٍ ما زال يحاول التمسك بالحياة. 

عندما عاد ظافر إلى المنزل، دخل وجلس على الأريكة التي كانت سيرين تفضلها حيث كانت تترك عبقها مع كل مرة تستند فيها برأسها للخلف.

كل شيء ظل كما كان، ومع ذلك كان كل شيء مختلفًا… كأن القصر قد استبدل روحه بأخرى باهتة. 

بقي ظافر هناك طويلًا حتى وقعت عيناه على الحقيبة. لقد طلب طارق أن تُرسل إليه متعلقات سيرين، لكنه لم يجرؤ على فتحها حتى الآن.

تردد، ثم تقدم خطوة كمن يقترب من صندوق أسرار مدفون منذ قرون، انحنى، أدخل الرقم السري ليفتح لسان قفل الحقيبة بسهولة… كان عيد ميلاده، بالطبع كان يعلم… لما لا وسيرين كانت تستخدمه في كل كلمات المرور داخل القصر وكأنها بذلك تربطها به حتى في أدق التفاصيل. 

تأملت نظراته محتويات الحقيبة التي لم يكن بداخلها سوى الضروريات اليومية وبعض الملابس، أشياء بسيطة، بلا بريق، بلا هوية صاخبة… لم تكن تشبه امرأة بل كانت تشبه مسافرة مجردة من أي انتماء. 

أعاد إغلاقها سريعًا كأنه يخشى أن تقفز الذكريات منها وتبتلعه.

دون أن يكلف نفسه عناء العشاء توجه إلى الغرفة التي كانت يومًا مملكتهما المشتركة، وبمجرد أن فُتِح الباب استقبلته رائحة الفراغ… لا شيء سوى رمادها وبجانبها تلك الصورة بالأبيض والأسود مائلة قليلًا كما لو أنها تنتظر يدًا تعيدها إلى وضعها المستقيم.  

أطلق ظافر أنفاسه بيأس وكأنما يدور حول نفسه في حلقة مفرغة فحرق الجثة منع أي فرصة لاختبار الحمض النووي، لكن ظافر كان متأكدًا… سيرين لم تمت.

أجل لم تكن لتختار الموت فهي لا تملك الشجاعة الكافية لذلك! كيف لفتاة كانت تخشى حتى لسعة إبرة أن تواجه الموت وجهًا لوجه؟ 

لا، لم تكن النهاية… لم تكن سوى فصل جديد خططت له بخبث، هي فقط أرادت أن تختفي، أن تهرب… إلى كارم. 

لقد أجرى تحرياته… وعلم أن كارم ذلك الرجل الذي لطالما كان أميرها الساحر في قصص الطفولة كما أنه لم يكن متزوجًا بل كان حرًا… حرًا ليكون اختيارها الجديد. 

تلك الليلة لم يغمض له جفن وعندما حل الصباح كان مستيقظًا قبل بزوغ الشمس كأنما كان يراقبها وهي تزحف فوق الأفق.

بعد أن انتهى من اغتساله، وجد ماهر قد أرسل له الإفطار لكنه لم يتناول منه شيئًا. 

في البداية، ظن أنه بخير… لم يتغير شيء في حياته لكنه كان مخطئًا. 

بدأ يلاحظ الفراغ… طبق ناقص على المائدة، صورة إضافية في المنزل تلك التي كانت بمثابة تأبين لها، رسائل اختفت… كما أنه لم يعد هناك من ينتظره عند الباب أو يرسل له تذكيرًا بالعودة مبكرًا. 

وللمفارقة بدأ يعود إلى المنزل في الموعد المحدد… بل وأحيانًا أبكر مما كان يفعل عندما كانت سيرين هناك. 

في المكتب لاحظ الجميع ذلك فمن كان يعرفه من قبل أخذ يتساءل:

“كم كان يكرهها؟ كم كانت ثقيلة على قلبه ليصبح أكثر التزامًا بعد غيابها؟” 

إحدى السكرتيرات علّقت بسخرية:

“السيد نصران كان يحتقرها، والآن بعد موتها… أصبح يعود للمنزل كأنه مشتاق!” 

رد أحدهم بضحكة ساخرة:

“رجل مثله؟ لم يكن ليحب فتاة صماء! لم تكن تعرف كيف تتجمل، لم تكن تفهمه أصلًا.” 

ضحك آخر قائلاً:

“لو كنت بجمالها لجعلت كل الأنظار تلاحقني! لكنها لم تفعل… يا لها من حمقاء.” 

في تلك الأثناء وقف ظافر أمام النافذة، مسندًا جبهته إلى الزجاج البارد، يحدّق في المدينة الممتدة أمامه كأنها سراب لا سبيل لإدراكه.

الأضواء تتراقص في عينيه بلا معنى، والمباني الشاهقة تتخذ أشكالًا متداخلة وكأنها تذوب في ضباب أفكاره.

لم يكن ينظر إلى المدينة حقًا بل إلى فراغه الداخلي الذي يتسع كل ليلة حيث يتردد صدى صمتها في جنبات روحه. 

لم يكن أحد يعلم… لم يكن أحد يدرك أن كل عودة مبكرة إلى المنزل لم تكن سوى رحلة عبثية للبحث عنها في الفراغ، في الأثاث، في الظلال التي تركتها وراءها كأنها كانت تختبئ بين طيات الهواء، أو تنساب بين ذرات الضوء الخافت، تهمس له دون أن يسمع، تترك أثرها في كل شيء، إلا أنها لم تكن هناك أبدًا.

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top