الفصل 27
وضعت سيرين الشيك في يد ظافر ببرودٍ أشبه بجليدٍ لا يذوب، قائلةً بصوتٍ خالٍ من التردد:
“لقد دفعتُ المبلغ… والآن سأستلمه.”
لم تنتظر منه رداً ولم تتكلف حتى عناء النظر إلى وجهه فقط استدارت بخفة ومضت بخطى ثابتة كأنها تسير على حافة القدر لا تأبه بما خلفها.
أما عن ظافر الذي قبضت أصابعه على الشيك كمن يحاول سحق إحساسٍ غامض تسلل إلى صدره لم يشيح بعينيه عنها حتى غابت عن ناظريه.
ثم وبصوتٍ هادئ يحمل بين طياته أمراً لا يقبل التأجيل قال لخادمه الوفي ماهر:
“لا تدعها تغيب عن ناظريك.”
***
في المساء حين عادت سيرين إلى المنزل الذي استأجره لها كارم كان الليل قد بسط عباءته الثقيلة ونامت المدينة تحت أضواءٍ خافتة تترنح بين السكون والصخب المكتوم.
وقفت سيرين على الشرفة كأنها تبحث عن إجابةٍ في العتمة ترفع الكأس إلى شفتيها ترتشف ببطءٍ كأنها تحاول أن تبتلع مرارة هذا اليوم مع النبيذ، كأسٌ يتبعها آخر ثم آخر…
لم يكن الشرب عادةً من عاداتها بل كان طقساً طارئاً لجأت إليه بعدما رحلت عن البلاد، فكلما كانت تشعر بأن الحياة تكشر لها عن أنيابها بلا رحمة تلجأ إلى الكحول كمن يستجدي نوماً سريعاً لعقلٍ مثقلٍ بالأفكار لكن بعد أن أنجبت زكريا ونوح بدأت شيئاً فشيئاً في التخلي عن هذه العادة فقد منحها وجودهما سبباً للبقاء متماسكة، جداراً تستند إليه كلما عصفت بها الذكريات.
إلا أن اليوم… بعد أن رأت ظافر انهارت كل حصونها دفعةً واحدة ومن ثم عاودتها تلك العادة القديمة كطيفٍ مألوف يدعوها إليه ولم تجد في نفسها القوة لمقاومته.
لم تكن تبالغ حين قالت إنها فقدت السيطرة… بل الحقيقة أنها لم تكن تملكها من البداية.
زفرت سيرين أنفاسها ببطئ وقد قض سلامها ذاكرة مبعثرة كأوراق الخريف**
فحينما غادرت البلاد تركت خلفها أكثر من مجرد وطنٍ وذكريات لقد تركت جزءًا من نفسها يتآكل شيئًا فشيئًا.
في تلك الحقبة من الزمن كان جسدها مثقلًا بحملٍ مضاعف ليس فقط ذلك الجنين الذي ينمو بداخلها، بل أيضًا اكتئابًا ألقى بظلاله الثقيلة على ذاكرتها حتى أصبحت واهنةً كمرآةٍ مشروخة تعكس الماضي في صورٍ متقطعة ثم تخفيه فجأة في زوايا النسيان.
كانت لحظاتٌ تمتد فيها يدُ الذكريات إلى أقرب الناس إليها فاطمة ثم تُفلِتُها دون إنذار وكأن عقلها يُمارس لعبة الاختفاء القاسي معها.
بين الفينة والأخرى كانت تغرق في دهاليز طفولتها قبل أن يختطف الموت والدها، أو تجد نفسها بين مقاعد الدراسة حيث كانت تحلم بمستقبلٍ لم يعد له وجود.
أحيانًا كانت تُسافر عبر الزمن إلى لحظة زواجها من ظافر، تتذكر قسمهما الأبدي، ضحكته التي لم تكن يومًا لها، نظراته التي لم تعتنق وجهها إلا في لحظاتٍ عابرة.
وذات مرة خَدَعَها عقلها بالكامل إذ استيقظت وهي تظن أن حياتها معه ما زالت قائمة بل وأنها لم ترحل، لم تُزيّف موتها، لم تهرب إلى المجهول، لم تكن سوى عروسٍ عادت لتوها من ليلة زفافها بشغفِ البداية دون أن تدرك أن تلك البداية أُغلقت أبوابها منذ زمن.
وفي نزوةٍ من ذلك الوهم اشترت تذاكر السفر عازمةً على العودة إلى ظافر؛ لتحتضن ماضيها كأنه واقعٌ لم يُلوّثه الفراق.
اقتربت من الوطن كما يقترب الغريق من اليابسة ظنًا منه أنها ستنقذه غير مدركة أنها مجرد سراب.
لكن القدر لم يكن أقل قسوةً من ذاكرتها فبين جدران المطار اصطدمت عيناها بحقيقة لم تكن مستعدة لمواجهتها، صورٌ لظافر ودينا يرقصان في احتفالٍ صاخب كأنهما يعلنان أن الماضي قد مات وأنها لم تكن سوى صفحة طواها الزمن.
لحظتها شعرت كأن ذاكرتها قد عادت لتنتقم فتركتها تصدّق الوهم للحظة ثم مزقته أمامها كخيطٍ واهٍ لا يصمد أمام الريح.
تلك الانقطاعات لم تكن مجرد نسيانٍ عابر بل كانت تمنحها الأمل ثم تسحبه منها ببطءٍ مؤلم كما يُنزَع الضماد عن جرحٍ لم يلتئم فلا أحد سيشعر بذلك الألم إلا من عاشه، من فقد أجزاءً من ذاكرته ليجدها تُعيد نفسها بطرقٍ أشد قسوة.
كانت تعلم دومًا أن ظافر لم يحبها يومًا وأن محاولاته المستميتة للعثور عليها لم تكن بدافع الحب بل بدافع العناد، فهو لم يستطع تقبّل فكرة أنها اختارت الرحيل وكأنها سلبت منه حق القرار.
ولهذا حين قررت العودة لم يكن بدافع الحنين بل لأنها كانت بحاجةٍ إلى شيءٍ واحدٍ فقط… السائل المنوي لظافر دون أن تضطر إلى أن تكون معه حقًا.
رنَّ هاتفها مقاطعًا سيل أفكارها المتشابكة كعقدة من خيوط القدر المربوط بعنقها فأمسكت به ببطء وكأنها تتوجس مما يحمله من أخبار.
جاءها صوت كارم عميقًا دافئًا يحمل في نبراته شيئًا من الغموض المغلف بجاذبية رجولية خالصة.
— “كيف سارت الأمور؟”
أخذت نفسًا عميقًا تطارد ما تبقى من ارتباكها قبل أن تجيب بنبرة حاولت أن تبدو واثقة:
— “يمكن اعتبار الخطوة الأولى نجاحًا.”
لكن كارم الذي خبر أدقّ خلجاتها لم يترك الأمر يمر بسهولة إذ التقط من صوتها نغمة لم ترضِه فتقلّصت ملامحه في شك وانعقد حاجباه وهو يقول:
— “هل تشربين مجددًا؟”
— “لا، لم أشرب منذ وقت طويل.” قالتها بسرعة ربما أسرع مما ينبغي مما جعل كذبتها ترتد إلى أذنيها كصدى متهمٍ في محكمة الضمير.
لم يرد كارم على الفور بل اكتفى بهمهمة قصيرة تبعتها لحظة صمت بدت وكأنها أبدية قبل أن يقول بصوت محمل بجدية لا تخطئها أذنها:
— “إذا واجهتِ أي صعوبات، سأعود—”
لكنها قاطعته، كأنها تخشى أن يمنحها عرضه أكثر مما تستطيع احتماله:
— “لا داعي لذلك، عليك أن تصدقني، أنا قادرة على التعامل مع هذا الأمر.”
كان عليها أن تبعده عن دوامة حياتها المعقدة تعرفه جيدًا فرجل مثله لا يملك رفاهية الوقت وليس من العدل أن تقحمه في شؤونها الخاصة، لكنه أجابها بحزم:
— “فقط تذكري، إن احتجتِ إليّ، عليكِ أن تتصلي بي فورًا.”
— “حسنًا.”
أغلقت الهاتف، وشعرت بثقل كلماته يتردد داخلها.
نظرت إلى زجاجة النبيذ الفارغة على الطاولة تأملتها للحظة كأنها تستعيد فيها جزءًا من ليلة بائسة ثم أمسكت بها وألقتها في سلة المهملات بحركة حاسمة كأنها تتخلص من ذنب قديم.
بحثت عن أي شيء يملأ الصمت الذي بدأ يطبق عليها فالتقطت جهاز التحكم عن بعد وضغطت على زر التشغيل لينفجر صوت التلفاز في الغرفة ناشرًا حياة مصطنعة في أجوائها وكأنها تحاول أن تهرب من وحدتها عبر ضوضاء الآخرين.
كان برنامجًا إخباريًا ترفيهيًا يُعرض، وسمعت صوت المذيعة يتحدث بإثارة مصطنعة:
— “دينا، يُقال إن صعودك من مجرد مغنية إلى نجمة مشهورة مرتبط بعلاقة سرية جمعتك بظافر نصران الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران… علاقة امتدت لأكثر من عقد من الزمان!”
عقد من الزمان…
ضحكت سيرين بسخرية مريرة.
عقد كامل؟ إذاً ماذا كانت السنوات الثلاث التي قضتها في زواجها من ظافر خلال ذلك العقد؟
قبل أن تغرق أكثر في دوامة أفكارها السوداء انطلقت رنّة أخرى من هاتفها وكانت هذه المرة مكالمة فيديو.
حدّقت في الشاشة وعندما رأت اسم المتصل أخذت نفسًا عميقًا وتأكدت سريعًا من أنها لا تبدو في حالة يُمكن أن تُثير شكوكه إذ كان المتصل ابنها نوح.
رفعت الهاتف وضغطت على زر الإجابة، ليظهر وجهه البريء على الشاشة مبتسمًا بطفولة صافية وهو يرسل لها قبلة عبر الشاشة.
— “أمي، هنا قبلة طائرة التقطيها!”
شعرت بشيء دافئ يتسلل إلى قلبها كنسمة رقيقة وسط عاصفة هوجاء، وفي تلك اللحظة أدركت أن هناك زاوية في حياتها لم تلوثها الفوضى بعد.