الفصل 34
كانت الغرفة غارقة في ضوء خافت انعكست ألوانه القرمزية على جدرانها كأنها تخبئ خلفها أسرارًا لم تُحكَ.
رائحة النبيذ المعتّق امتزجت بعطرها الثقيل فصار الهواء بينهما مشبعًا بالإغواء والخداع.
أمالت سيرين الزجاجة ببطء فانسابت قطرات النبيذ الأحمر في الكأس كما ينساب الحبر على صفحة بيضاء تحمل في طياتها قصة لم تُكتب، ومن ثم وضعت الزجاج على الطاولة برفق واستدارت متهادية في خطواتها كنسمة صيفية ساخنة وقد زين جسدها ثوب نوم يكشف أكثر مما يستر يشبه وشاحاً من الحرير أُسدِل على منحنياتها ليضاعف من فتنة المشهد.
وقفت أمام ظافر عيناها تشعان بريقًا حماسياً وكأنها مقدمة على أشد معاركها ضراوة بل وستقاتل حد الاستماتة.
مدت يدها بالكأس نحوه، وجاء صوتها ناعمًا كموسيقى خافتة:
— “ها هو كأسك سيد ظافر.”
رفع نظره إليها، عيناه تتفحصانها كما لو كان يقرأ سطورًا خفية في رواية غامضة.
بتمهل مد يده ليأخذ الكأس منها لكن شفتَيه ظلّتا متمهلتين عند حافته كمن يتذوق الخديعة قبل أن يتذوق الشراب، ثم ابتسم ابتسامة هادئة ويمينه الحاملة للكأس انسدلت ليسنده أمامه على الطاولة وبخفة زج الكأس على السطح الأملس ليصبح أمامها مباشرة دون أن يرتشف منه قطرة واحدة، وألقى كلماته كحجر في بحيرة راكدة:
— “عدتِ إلى المدينة من الريف عندما كنتِ في العاشرة من عمرك، كانت تلك أول مرة نلتقي فيها.”
تصلبت أصابعها للحظة؛ فهي لم تكن تتوقع أنها تحتل ذاكرته بهذا الوضوح أو أنه يحتفظ بلحظة كتلك كان من الممكن أن تكون عابرة، لكنها سرعان ما استعادت قناعها وأعادت الكأس إليه مجددًا محاولةً أن تُبقي زمام الأمور في يدها، إلا أن ظافر وبحركة مفاجئة دفع يدها برفق فتراجع النبيذ في الكأس كأمواج مد وجزر وعاد إلى مكانه كأنه يرفض الانصياع.
نبرته حملت أمراً لا يقبل المساومة:
— “اشربي أنتِ أولًا!”
ترددت للحظة عندما تسللت نظراتها إلى الشراب المخدر لكن ملامحها لم تفصح عن شيء، بل والتقطت الكأس ترفعه إلى شفتيها ثم ابتلعت رشفة طويلة.
أحست بمرارة النبيذ الحادة بحرارته التي انزلقت في حلقها كجرعة من الجحيم، لكنها لم تتراجع، لم يكن لديها خيار آخر، فهي لو بدا عليها شيء من التردد لأدرك ظافر الخدعة وهو رجل عاش سنوات طويلة في دهاليز الأعمال يتقن قراءة الأنفاس قبل العيون ويكتشف الكذب حتى في الصمت.
وضعت الكأس جانبًا ثم سحبت الزجاجة مجددًا وسكبت له كأسًا آخر بيد ثابتة وقربته منه ببطء:
— “دورك، يا سيد ظافر.”
تأملها بصمت وأصابعه أخذت تداعب حافة الكأس لكنه لم يرفعه إلى شفتيه، وبدلًا من ذلك مال برأسه قليلًا، وهو يرسم على ثغره تلك الابتسامة التي تحمل بين طياتها شيئًا أشبه بالمصيدة، يقول بمماطلة:
— “لا داعي للعجلة. دعينا نستعيد الذكريات أولًا… فكيف يمكن لحكاية عمرها أكثر من عشر سنوات أن تُروى في عجالة؟”
كان صوته هادئًا لكن في عمقه بحرًا من الشكوك والحكايات المخبأة بالأدق لا زال هناك الكثير من الأسرار التي لم تُكشف بعد.
عبست سيرين وكأنما سُحِب الهواء من رئتيها ورغم دوران المكيف في الغرفة إلا جبينها بدأ في التعرق كما لو أن حرارة مشاعرها الداخلية تعاند برودة المكان وزادها عليها سريان مفعول الأقراص المنومة في دمها.
غرست سيرين أظافرها في راحة يدها بتلقائية في محاولة منها لتبقي نفسها على أرض الواقع وألا تستسلم لهذيان الأفكار التي تلتهمها.
رفعت عينيها إلى ظافر ترمقه بنظرات هادئة لكنها تحمل ما يكفي من الزلازل الصامتة، ثم قالت بصوت منخفض خافت لكنه نافذ:
“لدينا متسع من الوقت للتذكر لاحقًا… تأخر الوقت الآن، ألا تريد أن نفعل شيئًا آخر؟”
التقطت كأس النبيذ بيد مرتجفة قليلًا ومن ثم ناولته إلى ظافر بحركة محسوبة في حين أنها لم تكن متأكدة إن كان تناوله للمشروب سيحدث فرقًا وستتمكن منه بحالتها تلك ولكنها بجميع الأحوال لم تكن مستعدة لتضييع هذه الليلة في الجدال.
في عينيه اشتعل شيء غامض مظلم، لوهلة لم يعد يرى سيرين أمامه بل صورة أخرى، وجهًا آخر… وجه كارم، الرجل الذي كان يشاركها الأسرار ذاتها لأربع سنوات، في الخفاء، في الظلال.
أطبق ظافر على معصمها فجأة بقبضة حديدية، فأخذ نبض سيرين يتسارع وبدأ الألم والخوف يتسربان إلى أعماقها، ومن ثم رمقها بنظرات سامة يقول من بين شفاهه المزمومة:
“هل هذه هي الطريقة التي أغويتِ بها كارم أيضًا؟”
تجمدت بمكانها عقب نطقه بكلماته المشينة، كان صوت ظافر أشبه بشفرة جليدية تنزلق على جلدها فهي لم تكن تتوقع هذا الانفجار، ولا هذا الاتهام الذي كان أشبه بصفعة على وجهها، ومع ذلك استكمل باستفزاز مردفاً:
“هل تخلى عنكِ؟ هل هذا هو سبب عودتكِ إليّ؟ ماذا تظنينني؟!”
ارتعشت أصابعها وفي غمرة التوتر أفلتت الكأس من يدها فتحطم زجاجه على الأرض وتناثرت قطرات النبيذ في كل مكان، كدماء شهدت جريمة غير معلنة، وبقسوة لا ترحم دفعها ظافر بعيدًا عنه وكأن مجرد لمسها صار يدنسه.
كانت عيناه مليئتان بالازدراء وشفتيه تحملان سخرية قاتلة قبل أن ينطق بكلماته الأخيرة قبل الرحيل:
“عاهرة قذرة!”
أحست بجدران الغرفة تدور من حولها لكنها لم تتهاوَ، في حين أن قبضتها انغلقت بقوة وكأنها تمسك على جمر من الغضب.
ظل صوت ظافر ظل يتردد داخلها كصدى جرح لم يلتئم بعد، فارتسمت على ثغرها نصف ابتسامة مريرة ولكنها حملت كل الاحتقار الممكن.
قذرة؟! ومن يكون أكثر قذارة منك يا ظافر؟
لم يحبها أبدًا ومع ذلك لم يتردد في أن يجعلها له وقتما شاء وحينما لم يعد بحاجة إليها صار يتظاهر بالنبل! يا للسخرية.
لكن لم يكن هناك وقت للغرق في الذكرى فبعد لحظات بدأ تأثير الدواء يتصاعد داخلها، شعرت بارتباك، بحرارة تشتعل تحت جلدها، بجسدها الذي لم يعد ملكها.
زحفت إلى الحمام ومن ثم فتحت صنبور الماء البارد إلى أقصى حد ووقفت تحته لتدع المياه تضربها بقسوة وكأنها تسعى إلى تطهير ما لم يُطهَّر.
أخذت تحكّ ذراعيها بجنون حتى بدأ الدم ينساب ببطء لكن حتى الألم لم يكن كافيًا ليهدئ العاصفة التي ماجت بداخلها.
في هذه الأثناء رنّ الهاتف في الخارج لكن أذنيها لم تعد تسمع شيئًا سوى هدير الماء فوق رأسها، بقيت هناك لا تعرف كم مر عليها من الوقت… شبه عارية من كل شيء سوى جرحها.
مرّت نصف ساعة…
وفي غمرة السكون الذي كان يلف المكان دوّى صوت الباب يُفتح بالقوة، كان صدى ارتطامه يتردد بكل ركن في القصر بل وطغى على صوت الماء المتساقط.
وفجأة دخل رجل طويل القامة برداء أسود كليلة بلا قمر، وجهه بارد، جامد كتمثال خرج للتو من الجحيم.
أخذت عيناه تفترسان الظلال وجسده يتحرك بثقة قاتل يعرف طريقه جيدًا.
في تلك اللحظة رفعت سيرين عينيها ببطء وكأنها تستقبل قدَرها.