الفصل 39
نظرت كوثر إلى زكريا بعينين تضيقان بدهشة لم تكن تخفي لمسة من الغضب وقالت بصوت يقطر توبيخًا:
“أنت لست مجرد طفل صغير… بل مشاغب بالفطرة، وكأن الشغب يسري في عروقك مثل دمك!”
ارتسمت على شفاه زكريا ابتسامة جانبية ثم ربت على كتف كوثر بخفة وكأنه بلمسته يحاول تهدئة العاصفة التي اشتعلت في عينيها، ومن ثم قال بنبرة أقرب إلى التصالح:
“بما أننا هنا، فلنتقبل الأمر كواقع، سأعترف بخطئي لأمي عندما نصل إليها… لكن حتى ذلك الحين فلنحاول التأقلم.”
تنهّدت كوثر وشعرت أن الحيلة قد انطلت عليها كما يُخدع طفل بلعبة سحرية، الفرق أنها لم تكن طفلة بل امرأة تعرف جيدًا كيف ينسج زكريا خيوطه حول الآخرين، والمشكلة الآن أنه لم يترك لها خيارًا آخر، وبالرغم من أنها كانت واثقة أنه سيكون على ما يرام حين يعود على متن طائرته لكن الفكرة وحدها لم تمنحها أي راحة.
حدّقت فيه للحظة قبل أن تقول بصرامة يشوبها القلق:
“ابقَ هنا وتصرف كما يجب، سأهاتف سيرين… وإلا فستقضي جدتك فاطمة ليلتها غارقة في القلق عليك.”
لكن زكريا وكعادته كان لديه رد جاهز قذفه بلامبالاة طفولية ممزوجة بثقة من يعرف أن كل شيء تحت السيطرة:
“لا تقلقي، تركت لها رسالة أخبرتها فيها أنني معك.”
رفعت كوثر حاجبيها بدهشة لكنها لم تجد ما تقوله؛ فكيف يمكن لصبي في مثل عمره أن يكون بهذا الدهاء؟
تنفست بعمق، ثم أخرجت هاتفها واتصلت بسيرين.
***
في تلك اللحظة كانت سيرين تجلس على شرفة منزلها، تحتضن كوب ماء دافئ بين راحتيها كأنها تستمد منه دفئًا لم يصلها من الجو حين رنّ هاتفها فنظرت إلى شاشته، ثم أجابت بابتسامة تلقائية:
“كوكي!”
لكن كوثر لم تبادلها تلك الحماسة المعتادة بل ألقت نظرة سريعة على زكريا وكأنها تحاول أن تستمد منه شجاعة غير موجودة، ثم قالت بصوت يحمل بين طيّاته اعترافًا مذنبًا:
“ساسو… كنت أريد أن أفاجئك، لكن…”
تجعد جبين سيرين بقلق:
“ما الأمر؟”
بلعت كوثر ريقها ثم قالت على عجالة كأنها تحاول التخلص من الجملة قبل أن تزنها سيرين بعقلها:
“أنا في المدينة، وصلتُ الآن إلى المطار… لكن زكريا تبعني إلى هنا.”
في اللحظة التالية شعرت سيرين بأن قلبها قد تخطى نبضه وبدأ في القرع بشكل غير منتظم فوضعت الكوب على الطاولة وانتصبت في جلستها كأن صاعقة قد ضربتها.
كوثر لم تضف كلمة أخرى فقط دفعت الهاتف إلى زكريا تاركة له مسؤولية شرح ما حدث.
أخذ زكريا الهاتف، وبصوت يحمل خليطًا من الجدّ والرجاء، قال:
“أمي، لا تلومي كوكي؛ أنا من اشتريت التذكرة سرًا وتبعتها… لم أستطع تركك وحدك في المدينة لقد كنتُ قلقًا عليك.”
وفي الجهة الأخرى كانت سيرين تحاول أن تستوعب… أن تفهم كيف تجرأ ابنها على شيء كهذا لكن وسط كل ذلك لم تستطع أن تمنع قلبها من الشعور بوخزة دافئة… مزيج غريب بين الحب والقلق والغضب كأن المشاعر الثلاثة اشتبكت في معركة لا رابح فيها.
لقد عرفت سيرين دائمًا أن زكريا ذكي لكنها لم تتوقع أبدًا أن يكون جريئًا بما يكفي للذهاب إلى المطار بمفرده.
“زاك! هل نسيت ما قلته لك؟”
لم يجب زكريا بل سأل بدلاً من ذلك:
“لكن يا أمي، لقد افتقدتك، وكنت قلقًا عليك، هل كنت مخطئاً كوني أحبك لهذه الدرجة؟!”
على الجانب الآخر كانت كوثر تُتابع المشهد بصمت إلى أن قررت أن تتدخل قبل أن يتفاقم الأمر، فجلست القرفصاء ملتقطةً الهاتف من يد زكريا بحذر، ثم قالت بنبرة مُطمئنة:
“سيرين، لا تقلقي… فكرت في الأمر جيدًا، زاك سيبقى معي الآن، ولن أدع ظافر يعرف بوجوده.”
في تلك اللحظة كان هذا هو الحل الوحيد إذ لم يكن هناك متسع للرفض ولا بديل للجدال، وقبل أن تُغلق سيرين الهاتف اتفقتا على اللقاء في أحد المطاعم.
تنفست كوثر الصعداء ثم نظرت إلى زكريا بنظرة لم تخلُ من العجز:
“هيا بنا.”
خرج الاثنان من المطار وكان السائق بانتظارهما عند المدخل بسيارة سوداء لامعة كأنها قطعة من الليل انزلقت على الأرض، وحالما استقر زكريا في المقعد حتى انطلقت نظراته الفضولية تراقب الطريق من النافذة، يتابع بشغف كل تفصيلة تمر أمامه وكأن المدينة كتاب مفتوح لم يقرأه من قبل.
لم يتوقف عن الأسئلة وكانت كوثر تُجيبه بصبرٍ وكأنها تُعيد رسم خرائط الذكريات بكلماتها:
“هذه الساحة المركزية… كانت ملكًا لعائلة نصران، أما هذا الشارع التجاري فكان لعائلة تهامي جدك من جهة والدتك لكن في النهاية استحوذ عليه ظافر ورغم كل شيء لا يزال مزدهرًا كما كان…”
فجأة، توقفت عن الكلام كأنها استيقظت من حلم، ومن ثم عقدت حاجبيها في شرود تتمتم لنفسها:
“يا لي من حمقاء! لماذا أخبر طفلًا صغيراً بكل هذا؟! من المؤكد أنه لن يفهم حرفاً مما قلته تواً”
وقبل أن تلتقط أنفاسها جاءها صوت زكريا جادًا وحاسمًا وهو يُحدّق فيها بعينيه البراقتين:
“كوكي، سأتم الرابعة في سبتمبر المقبل لم أعد طفلًا في الثالثة.”
ارتبكت كوثر وهي تبحث عن كلمات مناسبة لكنها لم تجد.
مرة أخرى وجدت نفسها عاجزة أمام هذا الطفل الصغير الذي يتحدث بحكمة تتجاوز عمره.
تحركت السيارة ببطء والأضواء تتراقص على زجاجها كأنها نثرات ضوء هاربة من مجرة بعيدة، وبعد وقت لم يُدرك زكريا كم مرّ منه توقفت السيارة أمام المطعم المُتفق عليه.
كان اللقاء على بُعد خطوات قليلة… لكن ما لم يعرفه أحد أن هذه الخطوات ستحمل معها بداية جديدة تسبقها عاصفة لن تهدأ.
غادر ظافر الشركة بخطوات ثابتة كأن الأرض لم تعد تثير اهتمامه بينما تبعته دينا كظلٍ لا يفارقه تراقب كل حركة تبحث في صمته عن إجابة لمطمع كان في نفسها.
صعدا إلى سيارة كاديلاك سوداء فاخرة كأنها امتداد لهيبته المتعالية، بينما جلس ظافر بالمقعد الخلفي دون أن يعبأ بوجودها وأمسك بعقدٍ يتفحصه بلا تركيز وكأن الكلمات تتراقص أمام عينيه بلا معنى.
أخذت دينا نفسًا عميقًا تحاول أن تلتقط شتات نفسها أمام هذا الجدار البارد الجالس بجوارها ثم همست بصوت ناعم يحمل خبث أفعى تطارد فريستها باستماتة:
“ظافر، خذ قسطًا من الراحة… تبدو متعبًا.”
لم يرفع عينيه عن الورقة ولم تهتز ملامحه قيد أنملة فقط جاء رده جافًا كصوت الريح التي تعصف بأوراق الخريف:
“ليس هناك حاجة لذلك.”
كلماته سقطت كحجر في بئر صمتها فلم تجد بُدًّا من التراجع إلى زاويتها المعتادة… الصمت، لكنها كانت تعرف جيدًا أن هذا الصمت لم يكن إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة.
ظافر لم يكرهها لكنها لم ترَ منه دفئًا يومًا، أربع سنوات مرت كان خلالها أشبه بظلٍ متحرك لا يقترب ولا يبتعد فقط موجود كحقيقة ثابتة لا تقبل التأويل، لكنها لم تستطع التسلل إلى أعماقه، وأبداً لم تفهم ما يدور في رأسه، وأكثر ما كان يحيرها ولم تجد له تفسيراً:
هل يمكن لرجل مثله أن يعيش بلا شهوة، بلا رغبة، بلا انجذاب؟ أم أن قلبه مقبرة دفن فيها مشاعرًا لم تشأ أن ترى النور؟
لكنها اليوم كانت عازمة على كسر هذا الحاجز، عازمة على أن تجعله يراها كما لم يرها من قبل، أن تقتنص حقاً لم يكن أبداً لها.
وسط هذه الأفكار اهتز هاتف ظافر فجأة كأن القدر يرفض أن يمنحها الفرصة التي تنتظرها.
التقطه ظافر ببرود ومن ثم وضعه على أذنه فجاءه صوت الحارس الشخصي يقول بنبرة ثابتة تحمل خبرًا طال انتظاره:
— “السيد ظافر، السيدة تهامي خرجت الآن، إنها في مطعم جولدن مون.”
ارتفع حاجباه قليلًا كأنه لم يكن يتوقع هذا الخبر لكنه لم يُظهر دهشة واضحة.
أغلق ظافر الهاتف ببطء بينما كانت دينا تراقب عينيه تحاول أن تلتقط أي لمحة من المشاعر المختبئة خلف هذا الوجه الذي طالما كان كلوحة بلا ألوان.