الفصل 59
حين تركت سيرين صغيرها زكريا في روضة الأطفال شعرت أخيرًا بأنها تنفض عن كاهلها بعضًا من التوتر الذي صاحبها منذ مجيئهما إلى المدينة. أتاح لها ذلك فرصة نادرة لتتجول برفقة كوثر التي بفضل نادر قررت البقاء لفترة أطول لرعاية زكريا.
نظرت إليها سيرين بعينين مليئتين بالامتنان، وقالت بصدق:
“شكرًا لكِ، كوثر… لا أعرف ما كنت سأفعله بدونك.”
ابتسمت كوثر ابتسامة خفيفة تحمل مزيجًا من التواضع والدفء وردت عليها بنبرة مازحة:
“متى أصبحتِ رسمية هكذا؟ لا حاجة لكل هذا الشكر بيننا.”
وفي هذه الأثناء بينما كان زكريا يخطو إلى داخل الفصل الدراسي انطلقت نظرات الدهشة والإعجاب نحوه كأنه نجم أطلّ فجأة في سماءٍ لم يكن أحد يتوقعه.
وسامته لم تكن عادية بل كانت تحمل شيئًا خاصًا هالةً من الجاذبية جعلت الفتيات يتهامسن فيما بينهن وعيونهن تتابعه وكأنهن وقعن في أسر سحره منذ اللحظة الأولى.
تقدم المعلم ليعرّف الجميع إليه قائلاً بصوته الهادئ:
“هذا زكريا، تلميذ جديد انتقل إلينا مؤخرًا من الخارج، أرجو أن تعتنوا به جيدًا.”
في زاوية الفصل كان هناك صبي يُدعى دارين الذي تلقى الليلة الماضية مكالمة من كوثر تخبره عن الطالب الجديد، وتطلب منه أن يكون صديقًا له.
توقع دارين أن يكون القادم الجديد فتىً مفتول العضلات شبيهًا له ربما حتى أكثر شراسة لكنه لم يكن مستعدًا لما رأته عيناه.
زكريا لم يكن مجرد “طفل جديد” بل كان مختلفًا… كان جماله من النوع الذي قد يدفع المرء للحيرة. بل إن دارين وجد نفسه يتمتم في سره بدهشة:
“لو كان فتاةً، لكان أجمل فتاة رأيتها في حياتي!”
لكنه سرعان ما استعاد توازنه ولوّح لـ زكريا بمرح مشيرًا له أن يجلس بجواره وحين استقر زكريا على المقعد مال إليه دارين قائلاً بثقة:
“إذن، أنت زكريا! عمتي كوثر أوصتني بك وهذا يعني أنك الآن تحت حمايتي.”
رفع زكريا حاجبيه ثم ابتسم ابتسامة جانبية تحمل مزيجًا من التساؤل والامتنان قبل أن يرد بنبرة هادئة تحمل شيئاً من المكر:
“يبدو أنني في أيدٍ أمينة إذًا.”
لم يكن دارين يتوقع أن يكون صوت زكريا بهذا الدفء وكأنه نغمة موسيقية هادئة وسط ضوضاء النهار فقد راق له ذلك لكنه لم يعلق.
في الجهة الأخرى من الفصل كان هناك مالك نصران الطفل الذي لم يعتد أن يسرق أحد منه الأضواء.
كان جالسًا في ركنه المعتاد مرتديًا بدلة صغيرة أنيقة كل زر فيها يبدو وكأنه يساوي ثروة، كانت ملامحه تحمل الغطرسة الفطرية لمن اعتاد أن يكون موضع الاهتمام.
وما إن وقعت عينا مالك على زكريا حتى تلاشت ابتسامته المسترخية واستبدلتها بنظرة حادة أشبه بنظرة صياد يتأمل دخيلًا في أرضه.
التقط دارين توتر الأجواء سريعًا فاقترب من زكريا وهمس بتحذير خاڤت:
“هذا هو مالك نصران وريث عائلة نصران العريقة، لا تحاول إغضابه فأنا حينها لن أستطيع مساعدتك.”
لم يملك زكريا إلا أن يبتسم في سره؛ إذ كان دارين يشبه كوثر إلى حدٍّ مثير للدهشة وكأن الحماية غريزة طبيعية فيهما.
أدار زكريا وجهه إليه وقال بهدوء:
“لا تقلق، لن أرتكب أي حماقة.”
في هذه الأثناء ظن دارين أن زكريا من النوع المطيع الذي لا يجلب المشاكل وأعجب أيضاً بتلك الميزة فيه.
أخذت أنظار زكريا تتجول المكان باستكشاف فوجد الفصل مليئًا بالألعاب والألوان لكن بالنسبة لـ زكريا لم يكن أي من هذا جديدًا عليه، ومع ذلك لم يكن ينوي أن يُثير الانتباه أكثر مما حدث بالفعل لذا تصرف وكأنه مجرد طفل آخر بين الجميع، لكن محاولته للبقاء بعيدًا عن الأضواء قد فشلت تمامًا إذ سرعان ما بدأت الفتيات بالتجمع حوله يتنافسن في الحديث معه ويقدمن له الحلوى ويتبادلن الضحكات الخجولة حتى أن دارين وجد نفسه مُزاحًا جانبًا ينظر إلى المشهد بإحساس غير مألوف من الإحباط.
أما مالك فقد شعر بأن شيئًا ما داخله يغلي إذ لطالما كان هو نجم هذا الفصل محط الإعجاب والمتلقي الوحيد لاهتمام الفتيات لذا لم يستطع تقبل أن يظهر زكريا فجأة لينتزع منه مكانته.
فكر مالك للحظة ثم ضيق عينيه بتركيز وقرر أن هذا لن يستمر طويلاً، وحين لاحظ مالك أن زكريا توجه نحو دورة المياه انتظر قليلاً قبل أن يتبعه بخطوات هادئة فقد كان يعلم أن زكريا لم يدرك وجوده أو على الأقل هذا ما افترضه.
بمهارة متمرسة أغلق مالك الباب خلفه ووضع لافتة “تحت الصيانة” مستخدمًا الحيلة التي مارسها من قبل.
نظر مالك إلى الداخل مستعدًا لتنفيذ خطته لكن ما لم يكن يعرفه أن زكريا كان واعيًا له منذ البداية وكان ينتظره بابتسامة غير متوقعة…