رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الثاني عشر

عشق لا يضاهى

الفصل 12

إدراك الحقيقة.. وصدمة اليقين

وأخيرًا، اتضحت أمام سيرين الحقيقة التي كانت تجهلها.

الآن فقط أدركت مغزى الكلمات الوداعية التي نطقتها دينا قبل اختفائها، تلك الكلمات التي لم تلقِ لها بالًا حينها، لكنها الآن تنغرز في عقلها كسهام مسمومة.

لقد لجأت دينا إلى الشكوى منها إلى ظافر بل ورسمت صورة مشوهة لها، والصقت بها تهمة لم ولن تقترفها يوماً.

لم تكن الفرصة سانحة لسيرين لتستوعب وقع الصدمة، إذ جاء صوت ظافر جافًا كحد السكين، قاطعًا كضربة الفأس:

“لقد تم الطلاق بيننا.”

توقفت أنفاسها للحظة، وأخذ جسدها ينتفض بلا وعي، لكن ظافر لم يمهلها وقتًا للرد بل أكمل بصوت أكثر برودة وكأنما يلفظ حكماً نهائيًا لا يقبل الاستئناف:

“كان من المفترض ألا تقتربي منها أبدًا وألا تلمسيها… دينا في المستشفى الآن.”

شعرت سيرين وكأن الهواء سُحب من حولها، وأحست بأن جدران المكان تتقلص وقد ضاقت بها الدنيا أكثر فأكثر حتى كادت أن تختنق… أسئلة أنهالت تنهش بعقلها ولا إجابات تتبادر بذهنها حتى الآن:

ما الذي حدث؟ كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟

لكن سرعان ما تلاشت دهشتها، وحلّت محلها موجة غضب عارمة إذ لم تكن تتوقع من دينا أن تلجأ إلى مثل هذه الحيل الوضيعة، وأن تلعب دور الضحية ببراعة، بل ونسجت خيوط مكيدتها بحرفية قاتلة.

ولكن ما أذهلها أكثر هو أن ظافر… صدقها…. لذا أجابته بلا مبالاة استحضرتها فما من شيء ستقوله سيجعل ظافر يشكك بما أدعته دينا:

“صدق أو لا تصدق لقد التقيت بها بالصدفة… ولم أفعل لها شيئًا.”

لم تمنحه فرصة أخرى حتى أنها لم تنتظر ردًا منه بل وأغلقت الهاتف في وجهه وكأنها توصد بابًا على قصة بأكملها، قصة ظنت يومًا أنها ستدوم، لكنها الآن تتهاوى أمام عينيها كبيت من ورق.

في أروقة المستشفى الباردة، وقف ظافر أمام سرير دينا يحدّق إليها بعينين متجهمتين تضجان بتوتر مكبوت.

كانت نظراته معلقة بجبهتها التي طوقت بالضمادات البيضاء، وكأنما يحاول حل شفرة مشهد لا يزال عالقًا بين الحقيقة والافتراض.

تلك المرأة التي لم تكد تلتقي بسيرين حتى اندفعت خارجةً من المقهى الذي التقتا به كمن أصابها مسٌّ، ثم… بطريقة درامية مأساوية، صُدِمت رأسها بشيء ما، وكأن القدر أعدّ السيناريو المثالي لتقف الآن أمامه، تدّعي أن سيرين هي الجانية.

خرج صوتها ضعيفًا متكسرًا، يحمل في طياته مسحة من المرارة الزائفة، وخبثًا مقنّعًا بعناية:

“كنت فقط أريد التحدث معها بلطف… لكنها…”

باغتته بالصمت وتركت الكلمات مبتورة كما لو أن الألم منعها من الاسترسال، لكن الحقيقة أنها كانت تمنحه فرصة ليملأ الفراغات بنفسه، ليصل إلى النتيجة التي أرادتها هي… أن سيرين مذنبة.

لم تكمل حديثها، بل امتدت يدها المرتجفة نحو كومة من الصور، ناولتها لظافر بخفة مدروسة، كأنها تقدم له دليلاً دامغًا لا يحتمل الجدل.

كانت الصور حديثة، التقطها أحدهم بطلب من دينا بعد أن اكتشفت حمل سيرين.

ثم همست بصوت متخاذل، وكأنها تحمل بين يديها عبئًا ثقيلًا:

“لا أريد أن أخفي الحقيقة بعد الآن… ظافر، أرجوك، لا تغضب عندما ترى هذه الصور.”

جذب ظافر الصور ببطء وحالما تلاشت المسافة بين عينيه والمحتوى تلبدت ملامح وجهه بغيوم داكنة، وسرت في عروقه موجة من الصدمة ترنحت معها أفكاره بين الشك واليقين.

لم تكن الصور مجرد لقطاتٍ عابرةٍ، بل كانت أدلةً دامغةً للحظاتٍ مجمدةٍ التقطت خلسةً تُوثّق علاقةً دافئةً بين سيرين وكارم… وتفاصيلها كانت كفيلةً بإشعال فتيل الغضب في صدر ظافر، تقذف به إلى حافة الانفجار، حيث لم يعد للهدوء معنى.

جلست دينا برباطة جأشٍ مصطنعة، تطالع ظافر بنظرةٍ ذات مغزى، ثم قالت بصوتٍ ناعمٍ يحمل نبرة الانتصار:

“لحسن الحظ أنني عثرتُ على هذه الصور قبل أن تتسرب. كان من الممكن أن يكون الأمر كارثيًا لو وقعت فضائحها بين يدي أعداءك يا ظافر.”

لم يردّ ظافر بل شَعر وكأن صاعقةً ضربته، لكن وجهه ظل قناعًا جامدًا.

غادر المشفى بخطواتٍ ثقيلةٍ غير واعٍ لمن حوله، ومن ثم استند إلى باب سيارته السوداء اللامعة، ثم استعاد أنفاسه ببطء، وبعد لحظات أخرج هاتفه وأمر ماهر بنبرةٍ خاليةٍ من أي انفعال:

“حوّل لدينا المبلغ الذي دفعته لشراء الصور.”

تردد لحظة، ثم أضاف بصوتٍ أشدّ حزمًا:

“أريد معرفة مكان سيرين الآن.”

هزّ ماهر رأسه على الفور:

“اعتبر هذا أمر منتهي، سآتي لك بالتفاصيل وعلى الفور.”

وفي الجهة الأخرى من المدينة، كانت سيرين تعاني من كوابيسها المتكررة، كأنها محاصرةٌ داخل متاهةٍ من الذكريات والأوهام.

رأته في حلمها، يتزوج دينا، كانا يبدوان سعيدين، يضحكان كأن ماضيه معها لم يكن سوى سراب.

شعرت سيرين بالاختناق لكنها لم تستطع الهروب من المشهد… ثم تسللت أفكارها إلى حلمٍ آخر حيث عاد ظافر إليها نادماً بعد كل الفراق والخيبات التي تسبب لها بها، وكان صوته متهدّج وهو يعتذر، يمدّ يده إليها وكأنها طوق النجاة، مقترحاً عليها أن يتصالحا.

ترددت، لكنها بالنهاية استسلمت… إذ ظنت أن الأمور ستعود أفضل مما كانت، وأن الحبّ سيغسل كل الجراح.

لكنها لم تكد تذوب في سعادتها حتى اختفى مجددًا… وتركها وحدها، تمامًا كما فعل من قبل.

استيقظت فجأة، جسدها متعرّق، وأنفاسها متلاحقة.

علت لتتحسس زوايا عينيها، حيث وجدت الدموع تتلألأ بصمت.

قالوا إن الأحلام ليست سوى انعكاسٍ لما يدور في العقل طوال اليوم.

لكنها لم تجرؤ على أن تأمل في ندمه، ولم تجرؤ أكثر على التساؤل: لو عاد حقًا، هل كانت ستسامحه؟

هطول المطر في الخارج كان مستمرًا، ينسج سيمفونية باردة على زجاج النافذة، بينما ساد الصمت داخل الغرفة إلا من أنفاس سيرين التي تخرج متلاحقة كأنها تطارد أفكارها. بعد أن نهضت من سريرها وغسلت الأطباق بآلية رتيبة، شعرت بثقل الوقت يتسلل إلى صدرها، كأن عقارب الساعة تتباطأ عمدًا لتزيد من توترها.

وقفت أمام هاتفها تتأمله مطولاً قبل أن تمد يدها نحوه، عازمة على الاتصال بظافر وطلب لقائه في المحكمة لإنهاء كل شيء… ولكن قبل أن تضغط على الرقم، جاءها صوت طرقات على الباب، حاسمًا، متزنًا.

تجمدت في مكانها، وهي تحدق في الباب للحظات، ثم زفرت ببطء إذ ظنت أنه كارم ربما قد جاء ليطمئن عليها أو ليواسيها بكلماته المعتادة.

تحركت سيرين بخطوات بطيئة نحو الباب وعندما فتحته، تجمدت أنفاسها في حلقها… تغمغم بنبرة مصدومة:

“ماهر!”

كان الاخير يقف هناك بملامحه الجادة مرتديًا بدلة رسمية بلون داكن تتكامل مع نظارته ذات الإطار الذهبي التي أضافت إلى مظهره وقارًا محسوبًا بدقة.

لم يكن وصول ماهر مفاجئًا تمامًا، فهو دائمًا يعرف كيف يجدها، لكن رؤيته هنا الآن جعلت قلبها يخفق بإيقاع غير منتظم.

رفعت سيرين حاجبيها في تساؤل وقالت بصوت حاولت أن تجعله ثابتًا:

“السيد ماهر؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟”

ألقى نظرة سريعة داخل الشقة يتفحصها بعينيه الحادتين كمن يبحث عن شيء محدد.

لم يكن هناك رجل، ولا حتى أثر لوجود أحد غيرها مما جعله يعتدل في وقفته قبل أن يجيب بصوته الرزين، المحايد حد البرود:

“السيدة تهامي، السيد نصران طلب مني أن أوصلكِ إلى المنزل.”

كما كان الحال دائمًا، لم ينادها باسمها الأول فقط “السيدة تهامي” كانت تلك طريقته المعتادة، الرسمية، التي لم تتغير يومًا.

أطرقت برأسها للثوانٍ، وهي تشابك أصابعها في حركة عصبية، ثم رفعت عينيها إليه وقالت بصوت هادئ، لكنه مشبع بالتصميم:

“لن أعود… وبما أنك هنا، أود منك إيصال رسالة للسيد نصران… أخبره أنني أريد إنهاء إجراءات الطلاق اليوم.”

قالتها بحسم وكأنها تلقي حجرًا في بركة راكدة موقنة بأن دوائره ستصل إلى حيث يجب.

في تلك اللحظة، تذكرت مكالمة ظافر بالأمس. **كلماته التي كانت كالسياط، اتهامه لها بأنها أذت دينا منذ البداية، كلماته الجارحة واتهاماته الباطلة تلك بدت وكأنها كانت متعمدة تحطيم كل شيء.

نبرة صوت ظافر عندما حادثها لم تكن مجرد لوم، بل كانت إدانة صريحة، وكأنها الجانية، لا الضحية.

مرة أخرى… تُلقى عليها التهم وكأنها وحدها المسؤولة عن كل شيء.

لحظة صمت ثقيلة مرّت بينهما. لاحظ بعدها ماهر التغيير في نبرة صوتها، وفي عينيها اللتين لمعتا بتصميم لم يعهده فيها من قبل… إذ قد سمع مسبقاً عن رغبتها في الطلاق من ظافر، لكن رؤيتها تنطق بذلك بنفسها كان أمرًا آخر.

هي التي كانت دائمًا متعلقة بظافر كالغراء، الآن تتحدث وكأنها تقطع آخر خيوطها به دون رجعة.

عبست ملامح وجه ماهر قليلًا، كمن يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال بنبرة منخفضة لكنها مشبعة بالتحذير:

“السيدة تهامي، أنصحكِ بأن تدرسي عواقب الأمور جيدًا… السيد نصران غاضب بالفعل الآن.”

كانت كلماته أشبه بإشارة خطر كتحذير عن عاصفة تقترب لكن سيرين لم تكن بحاجة إلى تحذيرات فقد عاشت وسط العاصفة طويلًا…

والآن، حان وقت الخروج منها، مهما كلفها الأمر.

التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top