الفصل 31
كان قلب طارق أشبه بساعة معطوبة تترنح عقاربها بين الماضي والحاضر دون أن تجد لها مسارًا مستقيمًا.
أصبحت مشاعره كعاصفة هوجاء لا تهدأ ولا تستقر تحاول عبثًا أن تجد ميناءً ترسو فيه.
في تلك اللحظة أراد أن يتحدث إلى سيرين لكن الكلمات فرت من بين شفتيه كحبات الرمل بين الأصابع، ظل متردداً هل يعتذر أولًا؟ أم يسألها أين كانت كل هذه السنوات؟ أم يكتفي فقط بوجودها أمامه وهو يحاول استيعاب حقيقة أنها لم تعد ذكرى؟
لكن قبل أن تكتمل أفكاره مرّت سيرين بجواره باردة كنسمة فجر عابرة لم تلتفت، لم تمنحه حتى رفّة رمش كأن وجوده لم يكن سوى سراب.
وقف مذهولًا كمن تلقّى صفعة من الزمن، التفت سريعًا لكن الوقت كان أسرع منه… كانت قد ركبت السيارة بالفعل واستندت إلى المقعد الجلدي الفاخر وهي تقول للسائق بهدوء قاتل:
“انطلق.”
نظر إليها وهي تختفي خلف زجاج النافذة الداكن تاركة خلفها ألف سؤال بلا إجابة.
استغرق طارق وقتًا طويلًا ليستوعب ما حدث كالحالم الذي لم يملك رفاهية فهم ما رآه بعد.
وبينما امتدت يده إلى هاتفه للاتصال بظافر ضربه شريط الذكريات؛إذ تبادر إلى ذهنه كيف كان ظافر يعامل سيرين طيلة تلك السنوات، كيف كانت تفاصيلها تُنتهك تحت وطأة الاستغلال، وكيف كان هو… مجرد متفرج في الخلفية!!
لكنه الآن لم يعد متفرجًا، لم يكن ليتركها تختفي مجددًا، أنانيته عندما يتعلق الأمر بها لم تكن تحتمل المراوغة ولهذا دون أن يرف له جفن سجّل رقم لوحة سيارتها وأرسل شخصًا يتعقبها، فهو يريد أن يعرف أين تعيش، بل يتطلع كي يعرف كل شيء عنها وبأدق التفاصيل..
على الطريق السريع انطلقت سيارة البنتلي السوداء كطيف هارب من ماضٍ مؤلم.
جلست سيرين صامتة تطالع الأروقة من خلف زجاج النافذة وعيناها تائهتان بين الظلال والأضواء، كان بداخلها سلام غريب كأنها سقطت في فراغ بلا نهاية.
لكن وجود طارق في المقبرة لم يكن مجرد مصادفة…
ذكرياته وهو يتنمر عليها لم تبهت كانت لا تزال محفورة في زوايا عقلها، في جسدها الذي حمل ندوبًا لا تُرى، في أذنيها اللتين كانتا ضعيفتي السمع منذ البداية وزادت حالتهما سوءًا بسبب نوبات النزيف التي كانت تصيبها كلما غمرتها العواطف… وكل هذا بسببه.
كيف يُمكن ألا تكرهه؟
أحيانًا كانت تتساءل… ماذا لو لم تُنقذه في ذلك اليوم؟ هل كانت ستعيش حياة طبيعية الآن بلا آلام بلا عواقب ذلك القرار الطائش؟
لكن الندم لم يكن رفاهية متاحة؛ كان هناك شيء أهم، شيء أقوى من كل الجروح القديمة…
نوح.
كان عليها إنقاذ نوح بأي ثمن.
ولهذا تظاهرت بأنها لم تعرف طارق وكأنه مجرد وجه آخر في زحام المدينة، فلا حاجة لإثارة المتاعب، ولا حاجة لتوريط نفسها في حرب جديدة، خاصة وهي تعلم يقينًا أنه سيفعل أي شيء من أجل دينا.
**في طريق العودة حيث كان الليل قد أسدل أستاره الثقيلة على المدينة، تلقّت سيرين اتصالًا مفاجئًا من وكالة Carnival Central Media.
كان الهاتف يرن بنغمة مألوفة تسرّبت إلى أذنيها كهمس القدر فأجابت بصوت محايد لكنها كانت تعلم أن المكالمة تحمل في طياتها أكثر من مجرد عرض عابر.**
جاءها صوتٌ واثق من الطرف الآخر يحمل نغمة رسمية تموج بالحماس:
“هل هذه السيدة ساسو؟ نحن من أشد المعجبين بأعمالك وقد بلغنا أنك أصدرتِ مقطوعة موسيقية جديدة، ونحن نودّ الحصول على حقوقها، فلا تقلقي بشأن المال، فهو آخر ما قد يشغل بالكِ.”
كان هذا العرض قادمًا من أكبر وكالة مواهب تابعة لمجموعة نصران حيث تعمل دينا المغنية الشهيرة وأحد أنجح الأسماء في صناعتهم.
أما عن سيرين التي لم تكن مجرد مديرة لشركة تجارية بل أيضًا مؤلفة موسيقية مرموقة تتخفى تحت الاسم المستعار “ساسو” كانت قد خططت لكل شيء بدقة إذ تعمّدت نشر أخبار عن مقطوعتها الجديدة قبل عودتها إلى الوطن لكن ليس طمعًا في البيع بل طمعًا في اقترابها من ظافر.
الآن وبعد أن صار ظافر في متناول أنظارها لم تعد هناك حاجة لبيع موسيقاها على الإطلاق.
بهدوءٍ محسوب، أجابت:
“آسفة، لا أفكر في التعاون حاليًا.”
لكن المديرة على الطرف الآخر لم تستسلم بسهولة، فتابعت بإصرار:
“سيدة ساسو نحن مستعدون لجعل نجمتنا اللامعة السيدة دينا تؤدي الأغنية تخيلي مدى النجاح الذي ستحققه حينها”
قاطعها صوت سيرين الذي جاءها جافًا كسيفٍ يُشهر في وجه العروض الفارغة:
“لو كان المغني شخصًا آخر، ربما كنا سنكمل هذه المحادثة.”
ثم بكل هدوء أنهت المكالمة.
في المقر الرئيسي لـCarnival Central Media كانت سيمون مديرة أعمال دينا تحدّق في هاتفها غير مصدقة.
للحظات ظلت صامتة كمن يحاول استيعاب الصفعة التي تلقّتها للتو ثم استدارت نحو دينا التي كانت تجلس مسترخية تتأمل أظافرها المصقولة بملل، وقالت:
“ديدا، السيدة ساسو رفضت العرض.”
رفعت دينا حاجبًا في دهشة خفيفة قبل أن تميل برأسها قليلًا وتقول بنبرة بطيئة وكأنها تحاول استيعاب الأمر:
“ألم تخبريها أنها تستطيع تحديد السعر الذي تريده؟”
“فعلت.” ردّت سيمون وهي تهز رأسها. “لكنها رفضت رغم ذلك.”
كانت سيرين أو “ساسو” كما يعرفها العالم ظاهرة فنية خارج الحدود، كل مقطوعة موسيقية تصدرها تتحوّل إلى نجاح ساحق حتى أن أغنيتها الشهيرة “فتاة مشتعلة” تمت ترجمتها إلى عدة لغات وحققت جميع إصداراتها انتشارًا غير مسبوق.
أما دينا فقد توقفت مسيرتها عند مفترق طرق فكانت بحاجة إلى أغنية تضخ الحياة في شهرتها المتراجعة.
حدّقت في سيمون للحظة، ثم سألتها بصوت منخفض لكنه مشحون بالغضب المكتوم:
“هل كانت تعلم أنني سأغنيها؟”
أومأت سيمون برأسها ثم أعادت على مسامعها الكلمات القاطعة التي ألقتها سيرين قبل أن تغلق الهاتف.
في تلك اللحظة تغير وجه دينا حيث كانت نظرتها تحمل مزيجًا من الدهشة والإهانة والغضب الممزوج بكبرياء جريح، ثم بعد لحظات تكلمت بصوتٍ بارد:
“من تظن نفسها؟ عليها أن تكون ممتنة لأنني فكرت حتى في الغناء لها!”
لكن سيمون التي تعرف تمامًا كيف تُسيّر الأمور في هذه الصناعة، اقتربت منها وقالت بنبرة خبيثة:
“دينا، أليس السيد طارق صديقك؟ وكذلك السيد نصران؟ أراهن أنه لن يكون من الصعب الحصول على الأغنية إذا قررا التدخل.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي دينا لم تكن سوى شرارة أولى لشيء أكبر يُحاك في الخفاء.