الفصل 37
وُلدت دينا يتيمة كزهرة نبتت وحيدةً في صقيع الليل دون أن تمتد إليها يد لترعاها فدوماً ما كانت تكره ذلك الوهج المسموم في أعين الآخرين وكذلك تلك النظرات المشبّعة بالازدراء كأنها ندبة في مجتمع لا يقبل إلا الكمال المصطنع.
حين تسلّلت كلمات طارق إلى مسامعها تصاعد في ذاكرتها ذلك الألم المترسّب في أعماقها، ذلك الإذلال الذي انغرس في قلبها كإبرة حادة حين حاولت ذات يوم أن تخطو أولى خطواتها داخل عوالم النخبة الثرية.
سنوات مرّت، لكنها لم تمحُ مرارة ذلك الاستقبال الفاتر ولا الهمسات المسمومة التي كانت تلتفّ حول عنقها كالأفاعي.
شدت على قبضتيها وغمغمت بصوت متهدّج يضج بتحدٍ رخيص وغير مبرر:
“انتظروا… فقط انتظروا حتى أصبح السيدة نصران! حينها لن يجرؤ أحد على النظر إليّ بعين الناقص بعد الآن!”
أما طارق فعندما لم تذكر دينا في مكالمتها شيئًا عن سيرين افترض أنها لم تعلم بعد بعودتها، لكنه على النقيض كان واقفًا خارج بوابة ذلك القصر متسمّرًا في مكانه كما لو كان الزمن قد توقّف.
تقدّم الحارس الشخصي الخاص به بتردّد متوجّسًا من رد فعله بعد هذا الانتظار الطويل:
“سيد طارق، السيدة تهامي لم تغادر القصر طيلة اليوم… هل أطرق الباب؟”
رفع طارق يده إشارةً للصمت وعيناه معلّقتان بذلك الباب الذي بدا كمدخل لقدر مجهول، ثم قال بصوت خافت يحمل الحسم:
“لا حاجة لذلك… انتظر فقط، ستخرج.”
كان في داخله لهب مشتعل خليط من الترقّب والرهبة، بالأمس حين علم بعودة سيرين ضربت نيران الشوق صدره بعنف وأخذت أنفاسه تتسارع كما لو كان يركض خلف شيء أفلت من بين يديه منذ زمن بعيد لكنه مع كل هذا الحنين لم يكن يملك الجرأة ليواجهها ببساطة.
كيف يقترب منها وهو يدرك تمامًا كيف كان يعاملها؟ كيف ينظر في عينيها دون أن يرى فيهما صدى كل لحظة أذاقها فيها مرارة الوجع؟
ظلّ واقفًا هناك يراقب ذلك الباب الخاوي كأنه ينتظر معجزة… وساعة تلو الأخرى ولم يكن هناك سوى الصمت سوى ظلال الذكريات التي تحاصره وتلك الساعتان اللتان مرتا كأنهما دهر بأكمله.
كانت الليلة الماضية بالنسبة لسيرين كابوسًا تجسد في هيئة ماءٍ باردٍ أحاط بجسدها كأذرع الأشباح فتركها مرتعشةً كريشة في مهب الريح.
استيقظت هذا الصباح والوهن يتسرب في أوصالها كأن الحمى قد قررت أن تتخذها عرشًا لها.
الدوار كان رفيقها في كل خطوة وكأن الأرض تميد تحت قدميها، حاولت باستخدام تلك الأدوية التي أحضرها لها رامي أن تهدئ العاصفة التي ماجت بداخلها لكنها كانت أضعف من أن تهزم الوجع المستتر في أعماقها.
ارتدت معطفًا ثقيلاً ذي أكمام ليس فقط لتحتمي من برودة الهواء الطفيفة التي يبدو أنها تسللت إلى عظامها ولكن لتخفي الخدوش التي تركتها الليلة الماضية على بشرتها كوشوم لا تريد لها أن تُرى.
وحين غادرت القصر بحثًا عن بعض الهواء النقي كان الصيف في أوجه ولكنها لم تشعر بحرارة الشمس بل وكأن ثلجًا يتراكم لداخلها يجعل كل شيء باهتًا، رماديًا بلا دفء.
لقد أخبرها الطبيب من قبل أن جسدها ضعيف هشّ كزجاج رقيق يمكن أن يتشقق في أي لحظة وما حدث بالأمس كان من الممكن أن يعيدها إلى المشفى وربما هذه المرة لن تخرج منه بسهولة.
تعترف بأنه كان عليها أن تكون أكثر حذرًا… لكنها تعلم أن الحذر لن يحميها من الأشباح التي تطاردها.
وفي غمرة أفكارها لم تلحظ السيارة المتوقفة على مقربة، فقد كانت خطواتها بطيئة شاردة وعندما مرت بها للمرة الثانية اندفع طارق من داخلها كالسهم وكأن صبره قد نفذ، ناداها بصوت حنون:
“سيرين.”
توقفت كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، استدارت نحوه واتسعت عيناها كمن رآى شبحًا من ماضٍ ظنه مدفونًا لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى شفتيها… الصدمة جثمت على لسانها كما يخيم الليل على مدينة مهجورة.
تقدم نحوها بخطوات تحمل ثقل السنين التي فرقتهما فهو لم يكن يقترب فحسب بل كان يجتاز عمرًا من الغياب كأن المسافة بينهما ليست أمتارًا، بل جراحًا لم تلتئم، اشتعلت بداخله أسئلة كثيرة، تحرقه، تنهشه، لكنه لم يجد سوى سؤال وحيد يهرب من بين شفتيه كصرخة مكتومة:
“هل كنتِ بخير طوال هذه السنوات؟”
ابتسمت سيرين… لكن كانت ضحكاتها بلا روح، باردة كحافة نصل بل وكأنها إهانة مغلفة بالسخرية.
أكان يتوقع أن تعترف له بمعاناتها؟ أن تمنحه شهادة إثبات على الألم الذي خلّفه فيها الزمن؟ أكان يريد أن يسمع تأكيدًا لما يتمناه؟
أطبقت شفتيها بينما استماتت أصابعها على شيء صغير في جيبها… علبة رذاذ الفلفل؛ فالماضي حين يقرر أن يلاحقك لا بد وأن تكون مستعدًا للدفاع عن نفسك.
ظل طارق يحدق بها وصمتها كان سياطًا تجلد روحه.
راقب شفتيها المغلقتين متسائلاً، أكان ذلك الصمت أثراً جانبياً لجرحٍ قديمٍ لا يزال ينزف؟ أم مجرد ترفع عن الرد؟ ربما لم تسمعه؟
“ألستِ ضعيفة السمع؟ لماذا لا تستطيعين سماعي الآن؟”
كانت خصلات شعرها المسدلة على كتفيها تخفي السماعة الصغيرة في أذنها لكنها لم تُكلف نفسها عناء تصحيح ظنه، فقط استدارت ببساطة تتابع طريقها وكأن وجوده مجرد سراب عابر في صحراء نسيانها، لكن يده سبقتها تلتف حول معصمها يجبرها على التوقف وصوته جاء مشوبًا بشيء لم تستطع تفسيره:
“هل حالتك تدهورت؟ دعيني آخذك إلى المستشفى.”
للحظة، ترددت… أهذا قلق؟ أم مجرد دور جديد في مسرحيته القديمة؟ هل هو صادق؟ أم يجهّز لجولة أخرى من الألم؟
حدجته بتيه وهي تتخيل ماضيه معها الذي كان يقف خلفه يبتسم لها بسخرية، وفي طرفة عين ومضت أمامها ليلة لم تغادر ذاكرتها حين كانت لا تزال تحمل لقب “زوجة ظافر”.
في هذا اليوم تحديداً انقلب طارق فجأة… إذ بدا لطيفًا لكنه لم يكن سوى قناع كاذب، لبت حالما دعاها إلى اجتماع زعم أنه مصالحة بينها وبينه وبين ظافر أيضاً لكنها حين وصلت لم تجد سوى نخبة من الأثرياء يتفرسون فيها بعيون تمضغها الاحتقار وكؤوس النبيذ تُرفع لا للاحتفال بل للمهانة… وحين سُكبت فوق رأسها لم يكن المشهد سوى طقس من طقوس الإذلال وذلك الطارق كان جالساً هناك على رأس الطاولة، كملك على عرش الشيطان يراقب العرض ببرود، ثم ألقى بحكمه القاسي:
“ألا يعجبك أن يناديك الجميع بالسيدة نصران؟ حسنًا… إذا مشيتِ حافية على هذه الورود الشائكة لثلاث دقائق، سأجعل الجميع هنا يعترفون بمكانتك.”
ويا لسذاجتها… لقد صدقته! أجل… فقد كانت في ذلك الوقت مجرد فتاة صغيرة ذات إعاقة بلا تجارب ولا أصدقاء، تزوجت من شاب كان حلم كل فتاة.
لكن اليوم حين عاد الماضي ليطالبها بشيء لم تكن تلك الفتاة التي تقف بلا حول ولا قوة.
حررت معصمها من قبضته بنظرات باردة كأنها تراه لأول مرة، ثم قالت بصوت هادئ، لكنه جاء كحد السيف:
“سيدي، صمتي لا يعني أنني لا أسمعك… بل يعني أنني لا أرغب في الرد.”
شيء ما في عينيها، في جمود ملامحها، في هدوء نبرتها… جعله يتجمد للحظة، لطالما كان طارق طفرة في عالم الطب بل ومناور مغوار في مجال المال والأعمال، فصيحًا، بارعًا في اختيار كلماته، لكن الآن… الآن كان عاجزًا عن النطق.
وحين استعاد صوته أخيرًا لم يجد شيئًا يسأل عنه سوى:
“ماذا كنتِ تنادينني قبل قليل؟”