تجمّدت شروق كما تتجمد المياه عند ملامسة الجليد وبقيت تحدّق في الملامح التي خرجت من قلب المجهول كأنها شبح من ماضٍ لم يُقدر له أن يُدفن.
أما من حولها؟ فقد كانوا كجمهور مسرحي في ذروة العرض لا يرمشون، لا يتنفسون فقط ينتظرون لحظة الانفجار.
وحين عادت الروح إلى لسان شروق خرجت كلماتها متلعثمة أشبه بمن يحاول أن يمسك دخانًا بيديه:
“أنتِ… چوانا؟”
چوانا؟!
القروية التي نُسيت كما يُنسى كتاب قديم في مكتبة مهجورة…
هل يعقل أن تكون هذه الفتاة المغطاة بالغبار ذات الشعر المعقود كعقد السنين هي نفسها تلك الطفلة التي اختفت بين أنياب تجار البشر؟
أهذه حقًا الفتاة التي كانت يوماً تنتمي إلى حكاية قد طُويت صفحاتها؟
داخل شروق تساقطت الأسئلة كالمطر فوق سقفٍ هش.
“فتاة ريفية، بسيطة، مكسورة… هل يُعقل أن تعود اليوم؟
ولماذا الآن؟ لماذا وأنا أقف على حافة المجد؟”
لكن قبل أن تفلت الكلمات من فم شروق مرة أخرى تقدّمت سوسن بخطًى متوترة لكنها محسوبة كأنها تمشي فوق ألغام.
قالت بصوتٍ مشبع بالتباكي لكن ذكاءها كان يختبئ خلف طبقات الحنان المصطنع:
“چوانا؟! هل هذه أنتِ يا صغيرتي؟!… كم انتظرتكِ، كم بكيتكِ ليلًا… ها أنتِ تعودين إليّ من جديد بعد سنواتٍ من الغياب والنار.”
ابتسمت چوانا.
لكن تلك الابتسامة لم تكن للحنين ولا للفرح… بل كانت انتفاضة إثر سكينًا مغروسًا بيد امرأة ترتدي قفاز من حرير.
نظرت چوانا إلى سوسن كما ينظر أسير إلى سجّانه حين يخلع القناع، تقول بهزأ:
“مرحبًا خالتي سوسن… لقد مرّ وقت طويل، أليس كذلك؟”
نطقت “خالتي” تلوكها وكأن الكلمة نفسها تُثقل لسانها.
صوتها كان ناعمًا لكنّه يحمل في داخله شتاءً باردًا لا يُدفئه حنين.
“أخت أمي تتزوج من أبي؟ أهو حظي العاثر، أم مسرحية عبثية؟ ما هذا العبث؟ من دفن الحقيقة تحت وسادة الشرف؟ لا بد أن خلف هذا المشهد حكاية لم تُروَ.”
بدأ الهمس يسري بين الضيوف كسم في ماء راكد:
— “سمعت أن السيدة سوسن كانت أخت زوجة هاني الأولى…”
— “چوانا… أليست هي الفتاة التي اختُطفت منذ عشر سنوات؟”
— “أجل وبعد موت مروة، تزوّج هاني الأسيوطي من أختها الصغرى؟ غريب!”
— “وكأننا في مسلسل تركي!”
كل همسة كانت خنجرًا يغرس في صدر سوسن وكل نظرة كانت مرآة تفضح عُري القصة.
تنحنحت سوسن محاوِلة أن تستعيد السيطرة على المشهد كي تمسك بالخيوط قبل أن تحترق بيدها:
“عزيزتي… ما يهم هو أنك عدتِ دعيني آخذك لتغتسلي… مظهركِ لا يليق بكِ فأنت تبدين متعبة… و… متسخة لا بد أن الحياة في تلك القرية كانت قاسية عليكِ.”
لكن چوانا لم تفوّت السهم بل ابتسمت بمرارة وقالت لنفسها:
*”ما زالت تذكرني بأنني جئت من الريف…
ما زالت تضع بيني وبين النقاء مسافة من الطين.
هل هي كراهية؟ أم خوف؟
ربما الاثنان معًا.”*
وقبل أن تنفلت الكلمات من شفتي چوانا كطلقةِ رصاصٍ كانت تنتظر زنادها اخترق الفضاء صوتٌ منخفض، رخيم، يحمل في نبراته سلطةَ الملوك وبرودَ من اعتاد أن تُفتح له الأبواب دون أن يطرقها.
“مرحبًا.”
تجمّدت الأجساد ودارَت الأعناق كأنها قطعة واحدة صوب المصدر.
هناك على حافة المروحية التي لم يهدأ صوت محركها بعد، نزل هو.
فهد الدريني.
الرجل الذي إذا حرّك حاجبيه انكمش مؤشر بورصة وإذا رفع هاتفه ارتعدت شركات، وإذا ابتسم… رفرفت قلوب نساء ونُسفت مخططات رجال.
وما إن لامست قدماه العشب حتى تناثرت الهمسات كحبات المطر فوق زجاج نافذة وارتفع نبض المكان كما لو أن قلبه صار المسرح.
“السيد فهد… الدريني؟”
اندفعت شروق تحاول أن تُسيطر على رعشة جسدها كما يُسيطر عاشق على قلبه حين يلتقي الحلم وجهًا لوجه.
ابتسمت وارتجفت كلماتها:
“هل… هل جئتَ من أجل عيد ميلادي؟ يا لكرمك شكرًا لك!”
في عينيها اشتعل الربيع وفي خديها انفجرت ألوان الحياء الملطخ بالعار والفرح دفعة واحدة كأن الحياة أعطتها الآن جائزة ترضية لا تستحقها.
في أبعد أحلام شروق كانت تأمل أن يرسل فهد من ينوب عنه بهدية أو تهنئة.
لكن أن يأتي بنفسه؟! أن يهبط من عليائه إلى هذه الحفلة؟!
ذلك بالنسبة لها إعلان رسمي بأن الحياة بدأت لتوها.
كل من حولها رمقها بنظرة بها مزيجٌ من الدهشة والغيرة وكأن شروق قد خطفت الشمس من سماء الآخرين.
ولكن… في اللحظة التالية… نزل السكين.
“من أنتِ؟”
قالها فهد ببرودٍ قطبي من بين حاجبين معقودين ونظرة خالية من الدفء كأن عينيه الآن فقط رصدتا وجودها أو كإقرار لا لبس فيه بأن ملامحها لا تحمل أي بصمة مألوفة بالنسبة إليه.
تجمدت شروق بأرضها وكأن طعنة قد أصابت صدرها مباشرة، تاهت حروف الكلام من طرف لسانها وسقطت ابتسامتها كقناع زجاجي تحطم فجأة.**
بينما في الجوار لم يستطع بعض الضيوف كتم ضحكاتهم فجاءت خافتة… لكنها كالصفعات، وأخذوا يتهامسون بسخرية:
— “ظننتُ أن فهد جاء ليُبارك لها لكن يبدو أنه لا يعرف حتى اسمها!”
— “يا إلهي لو كنت مكانها لاختبأت في حفرة وطلبت أن يُردم عليّ التراب فورًا!”
تحولت شروق من عروس الحفل إلى شبحه، من زهرة متفتحة إلى غصن مكسور.
نظراتها تاهت بين الحضور ثم استقرّت على فتاتين تضحكان بصوت خافت لكنّ عيونهما تنضح بالشماتة.
في تلك اللحظة لم تبكي شروق لكن كل ملامحها صرخت بصمتٍ مدوٍ… صرخة لم تسمعها إلا چوانا التي عانت النبذ.
ومع انحدار الشمس خلف الأفق حين بدأت الأضواء تفقد بهاءها وتُظهر العيون ما تُخفيه القلوب كانت سوسن كعادتها أول من حاول التقاط الخيوط المتناثرة من كرامةٍ تُسحب كالسجاد من تحت الأقدام.
تقدّمت بخطى حثيثة كمن يسير على جليدٍ هش وانحنت قليلًا بجسدٍ ارتدى ثوب اللياقة فيما كان قلبها يرفرف مثل طائرٍ مذعور في قفص، تقول بكياسة:
“سيد فهد لم نكن على علمٍ بقدومك هذا اليوم… يا له من شرفٍ عظيم أن تحلّ ضيفًا علينا… إنه عيد ميلاد ابنتي ولوهلة ظننتُ أنك أتيتَ لمشاركتها التهنئة، لكن ربما جئتَ لأمرٍ أكثر أهمية… كمناقشة شراكة ما مع هاني… إنه في الطابق العلوي اسمح لي بأن أرافقك.”
أخرجت كلماتها من بين ضلوعها كمن يُخرج لؤلؤة من محارةٍ خشنة تتوسل أن تُخفي شرخ الكبرياء.
وبالفعل، كأن تلك الجملة قد امتلكت عصًا سحرية فجفّت على الفور أنهار السخرية من وجوه الحضور وعاد التملق إلى مجاريه.
فمن لا يتشرّف بأن يضع اسمه بجانب اسم الدريني؟ فحتى مجرد استنشاق هواءٍ مشترك مع فهد قد يُسجّل ضمن الإنجازات.
ولكن…
في اللحظة التالية كما لو أن القدر قد قرر أن يكمل المسرحية بمشهد عبثي جديد…
“هل أعرفك؟”
كلمات فهد خرجت ببرودٍ يحرق كأنها قطعة جليد سقطت داخل وعاءٍ من جمر فتصاعد منها دخان من الخزي.
توقفت يد سوسن في الهواء، ممدودة بلا جدوى كغصنٍ يابس يبحث عن قطرة مطر.
السيد فهد… لا يعرفني؟
والضحك… ذاك العدو الذي لا يُرَى بدأ يتسلّل مجددًا عبر الأعين المتلصصة والأنفاس المكتومة وكأنهم في عرض كوميدي لا ينقصه سوى تصفيق.
هل نحن أنا وابنتي دمى على مسرح ساخر؟
تمتمت بها سوسن التي كانت ترتجف ليس من البرد بل من الإهانة التي نزفت صامتة داخل صدرها.
وكلما حاولت أن تُخفي ملامح الانكسار خرجت الحقيقة من عينيها كطوفانٍ لا يُكبح.
لكن…
إذا لم يكن فهد يعرفني، فمِن أجل مَن أتى؟
لمن هبط بطائرته الخاصة؟
لمن اخترق صمت السماء بنزوله؟
وهنا برقت الحقيقة في عقلها كصاعقة مزّقت ستار الغموض.
چوانا!!
تلك الفتاة التي نظر إليها الجميع بازدراء والتي خرجت من مروحية فهد وكأنها تحمل مفتاحًا لسِرٍ دفين.
لا…
هل يمكن أن تكون چوانا هي السبب؟
وفي تلك اللحظة لم تحتج سوسن إلى تأكيد… إذ رأت فهد ذلك الرجل الذي لا يُضيّع خطواته عبثًا، يتجاوزها دون كلمة، دون نظرة، ويمضي — بثقة من يعرف وجهته — صوب چوانا.
الهواء صار أثقل… والمشهد ازداد غرابة… حتى العشب تحت الأقدام بدا كأنه ينكمش على نفسه كي لا يُداس في لحظة الحقيقة القادمة.
رواية غرام عكس التيار تمصير أسماء حميدة