رواية غرام عكس التيار (كاملة حتى الفصل الأخير) بقلم الكاتبة أسماء حميدة الفصل السادس

رواية غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة الفصل الخامس

الفصل السادس جمال مذهل

أطرقت چوانا برأسها تحاول أن تُخفي عاصفةً من المشاعر تدفّقت بين أضلعها كأنها موسيقى حزينة تعزفها أوتار قلبها ومن ثم رفعت طرف فستانها كمن تزيح الستار عن مشهدٍ مرتقب وبدأت تتهادى في مشيتها على درجات السُّلم بخطوات تحمل في خفّتها معنى التحدي وفي ثباتها شيئًا من الكبرياء المستتر.

لم يرَ الضيوف وجهها أولًا… بل استقبلتهم قدماها النحيلتان كإعلان مبكّر عن أن الجمال قد قرر اليوم أن يمشي بينهم على الأرض.

ضوء الثريا الكبير الذي انسدل كعرش من البلور فوق رؤوسهم انكسر على أصابع قدميها الرقيقة فأشعل لمعانها كما لو أن الملائكة قد قبّلت كاحليها الحريريين قبيل نزولها.

كان هذا المشهد وحده كفيلًا بأن يبعثر خيال الحاضرين ويجعله يرتحل في مدارات من الدهشة والانبهار… ساقاها لم تكونا مجرد طرفين يحملان الجسد بل قصيدة تمشي نُسجت من التوازن والجاذبية والعنفوان.

حتى شروق وبالرغم مما تحمله من نوايا خبيثة إلا أنها فوجئت بكمال التكوين، وحِدّة تأثيره وها هي ترمق بعض الرجال بنظرة جانبية فقرأت الإعجاب يلمع في أعينهم كأنها تُترجم لغة الصمت لكن ما أقلقها لم تكن مقلهم بل تلك العين الواحدة التي كانت تخشاها: عينا فهد الأسيوطي، لقد رأته شروق بعين الحاسدة وهو يحدّق لا بعين رجل فضولي بل بعين ذكر يحدق بجسد اشتهاه يومًا أو حلمًا رآه يتجسّد من بعيد.

تسلّلت رعشةٌ باردة إلى صدر شروق وشعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها وبدأت تتساءل بصوت عقلها المرتجف:

**”هل ارتكبتُ خطأً؟ هل كان ينبغي أن أدعها تختفي في الظل؟”**

لكنها لم تسمح لهذا الشرخ أن يتسع بل ارتدت وجهها القديم، وجه السخرية المتكئة على الكبرياء، وتمتمت في نفسها بابتسامة صفراء:

**”مجرد ساقين! ما إن يروها عن قُرب حتى يزول السحر… ستسقط لا محالة من تلك الكعوب المجنونة… وسأضحك.”**

ثم التفتت إلى من بجانبها وهمست بخبث مُتعمَّد:

**”هيا… امشِ أسرع يا چوانا! لا أطيق الانتظار لرؤيتك تتعثرين! سيكون مشهدًا يستحق التصفيق.”**

لكن چوانا بخطواتها التي خالطها الغموض لم تمنح شروق متعة السقوط بل نزلت باتزان على الدرج تتحدى الجاذبية وكأن كعبها العالي لم يكن عائقًا، بل جزءًا من جسدها… كانت تمشي كما لو أنها اعتادت أن ترقص فوق الحافة بلا خوف فكانت كل خطوة بمثابة صفعة لأوهام شروق التي تجمّد على وجهها تعبيرٌ لم تعرف له اسمًا سوى “الخسارة”… وهي تهمس بين أنفاسها بغيظ:

**”كيف؟ كيف لم تتأرجح؟ كيف لم تتعثّر؟ أين ذلك المشهد الذي انتظرته؟!” **

ما لم تكن تعرفه شروق هو أن چوانا لم تكن غريبة عن هذا النوع من الرقص الخطِر فقد خاضت معركة الكعب العالي ذات يوم حين وقفت مكان صديقتها في عرض أزياء وسارت بكعب يبلغ طوله ست بوصات تحت أضواءٍ أشد قسوة من نظرات البشر لذا فهذه الأرض بالنسبة لها اليوم ليست ساحة تهديد بل مسرحًا يُعيد لها لحظة نصرٍ قديم.

قالت شروق في نفسها بسخرية محمومة تحاول أن تنتصر على الغيظ:

**”هل تعلمت المشي على الكعب من تلك المسلسلات التي تُصوّر القرويين وهم يسيرون على العكازات الخشبية في الاحتفالات؟! يا لغرابة القدر يبدو أن التدريب قد أتى بثماره!”**

في تلك اللحظة وبينما كانت أنفاس من بالقاعة محتبسة امتدت عينا شروق إلى ما هو أبعد مِن ساقي مَن تهبط الدرج حيث تنكشف ملامح چوانا قطعةً قطعة كأنها لوحة سريّة يُزيح عنها الزمن ستائره ببطءٍ مريب وها قد لاح خصر چوانا النحيل كخيط نورٍ يشق الظلمة، خصرٌ منسوج بخيوط خيال لا من لحم ودم يتمايل برشاقة تشبه تراقص النسمات على سطح ماء راكد.

ارتعشت نظرات شروق وتقلّبت مشاعرها كأنها سفينة تائهة في عرض بحر هائج.
كيف؟ 
كيف لم ترَ ذلك من قبل؟
لم تكن هذه الفتاة هي ذاتها التي خرجت من بطن المروحية قبل ساعات بملابسها المتسخة الفضفاضة وشعرها المشعث كأنها خرجت لتوها من معركة!

قالت شروق في نفسها وهي تعضّ على شكّها كمن يلوك غيرةً موجعة:

“لا بد أن في الأمر خدعة! نحيفة، نعم… لكن الجمال؟ لا… لا يمكن!”

راحت تضحك داخليًا ضحكة مُرّة محاولة أن تهدّئ طوفان غيرتها بصوتٍ داخلي كاذب:

“سترون… سترون الآن! وجهها بالتأكيد سيصدم الجميع، سيبدّد هذا الوهم… هيا، تعالي يا چوانا! أظهري ما تخفين!”

وكأن چوانا استمعت لنداءها الخفي فجأة فسّرعت في خطاها تمشي وكأنها تنحت اللحظة بقدمَيها، كل حركة منها تُشبه رقصة قديمة تعلمتها من كائنات لا تنتمي لهذا العالم.

أما عينا شروق اللتان تحوّلتا إلى مرآتين تعكسان الخوف أكثر من الفضول انجذبتا لا إراديًا نحو رقبتها… إلى عظام الترقوة المحددة بدقة وكأنها منحوتة بيد نحات إغريقي… وإلى خط العنق الذي بدا كجسرٍ بين الحياء والتحدي.

وكلما اقتربت چوانا من ضوء الثريا الكبرى ازداد الحريق في صدر شروق وازدادت قبضتاها انغلاقًا كأنها تمسك على خيبة أمل تحاول خنقها.

ثم وفي اللحظة التي ظنّت فيها شروق أنها مستعدة لرؤية الوجه الذي سيهدّئ سُمَّ قلقها… زيّن الضوء وجه چوانا.

ولوهلة توقف الزمن… لقد كُشف الحجاب… فانكشف معه كل شيء… وجه چوانا كان أقرب إلى أسطورة نسجتها أحلام الشعراء وتهامس بها المجانين… ملامح ناعمة متناسقة خالية من أي شائبة كأنها ليست من صنع البشر بل من روح سكنت جسدًا نقيًا خُلق كي يُنظر إليه لا ليُلمس.

عيناها الداكنتان تُشعّان كما لو أن نجمين قد سقطا من السماء واستقرا في محجريها… لم يكن فيهما شيء من الخجل أو الخوف… فقط حضور طاغٍ يزلزل الأعماق.

تجمدت شروق في مكانها وانفرج فكها من هول ما رأت… لوهلة شعرت بأن الهواء قد صفعها على وجهها وأن الكلمات خانتها في لحظة كانت بأمسّ الحاجة إليها.

همست وهي لا تكاد تصدّق:

**”هذه… هذه هي چوانا؟ أحقًا هي؟ أم خُدِع ببصري؟”**

حدّقت شروق في چوانا كمن يرى شبحًا خرج من أسطورةٍ قديمة ثم تمتمت بنبرة مختنقة أقرب إلى اعتراف مسموم:

“هل… هل تمزحين معي؟!”

وفي لحظة انسحب الدم من وجهها كجندي مهزوم إذ شحب لونها واهتز كيانها من الداخل.

ثم وبينما كانت تحاول لملمة رماد كبريائها باغتها إدراكٌ أشد إيلامًا من كل ما سبق:

لقد كانت هي من وضعت السيف في يد چوانا… أعطتها فستانًا جعلها تتوهج، كنجمةٍ لا يجرؤ أحد على مقارنتها بشيء.

شهقت شروق داخليًا وقد اختنقت من غيظ لم تستطع لفظه:

“يا إلهي… ماذا فعلتُ؟! لقد أهديتها انتصاري!”

كانت شروق غارقةً في دوامةٍ من المشاعر كأن صدرها حقل ألغامٍ يتنفس على حافة الانفجار… الغضب يغلي في شرايينها والغيرة تحرق قلبها ببطءٍ مؤلم… شعرت كمن يسير حافيًا على جمرٍ مشتعل عاجزة عن الصراخ أو النجاة.

أما وجهها الذي كان قبل دقائق شاحبًا كصفحةٍ مهجورة امتلأ الآن بخطوط الغلّ واشتعلت فيه ألسنة الحقد كمن تجرّع السمّ وانتظر أثره في المرآة.

لم ترغب حتى في أن ترفع عينيها نحو چوانا مجددًا… كانت تخشى أن ينهار تماسكها، أن يُفسد ذلك الجمال المُفاجئ مرآة صورتها عن نفسها فقد كانت تعلم يقينًا أن نظرةً واحدةً أخرى قد تجعلها تشكّ في كل ما تملكه من أنوثة لكن العيون من حولها لم تكن ترفّ… كلّ من في القاعة رجالاً ونساءً استُلبوا كأن أرواحهم غادرتهم لتتبع چوانا… ثم… التفتت شروق إلى فهد… ذلك الرجل الذي ظلّ طيلة الوقت يحمل تعبيرًا جامدًا كأنه تمثالٌ منحوت من الجليد… تغيّر.
بدأت نظراته تأخذ طابعًا آخر… شيء يشبه الرهبة، أو ربما الذهول.

**”هل… هل تلك الرهبة في عينيه؟!”**

همست شروق في داخلها وهي تراقبه كأنها تحاول قراءة ما بين أنفاسه.

**”مستحيل… فهد الأسيوطي؟ النبيل المتماسك؟ هل أربك جمال چوانا توازنه؟”**

في زاويةٍ أخرى من القاعة كانت سوسن بدورها تراقب المشهد بصمتٍ أقرب إلى الصدمة… كانت تعرف أن چوانا جميلة ولا أحد ينكر أنها تحمل في ملامحها شيئًا من وهج الفتنة لكنها لم تكن تتوقع هذا الانفجار في الجمال… لم تكن تتوقع أن تنظر إلى ابنتها لتجد ابنة أختها أجمل منها.

**”يا إلهي…”** تمتمت في داخلها، **”ستسرق بريق شروق بالتأكيد!”**

نظرت سوسن على الفور إلى هاني علّها تجد عنده ردًّا يُطمئنها لكنها وجدته مذهولًا أيضًا… صحيح لم يكن ذهوله مشابهًا لباقي الرجال؛ فهو في النهاية والدها ولكن هناك شيء ما في عينيه… شرارةٌ صغيرة، لامعة، تشبه دمعة تأخرت في الخروج… ذلك البريق لم يكن مجرد فخرٍ أبوي بل أشبه ما يكون بنظرة رجلٍ وجد كنزًا ضائعًا وسط الركام… كأن قلبه همس له:

**”هذه هي… جوهرتي الضائعة.”**

لكن سوسن التي كانت كعادتها تُخفي الخوف خلف جدارٍ من الكِبر شعرت بشيء يشبه الخيانة.

حدثت نفسها وقد تكوّنت في مقلتيها نارٌ سوداء:

**”مستحيل! لن أسمح لتلك الريفية أن تستحوذ على كل هذا الانبهار! لن أتركها تنقضّ على الامتيازات التي نحيا بها وكأنها وُلدت لتملكها! لقد استهنت بها… لكن لن أرتكب هذا الخطأ مرتين.”**

ثم تمتمت في نفسها كأنها تلقي قَسَمًا مظلمًا:

**”يجب أن أتخلص منها… يجب أن أتخلص منها!”**

ألقت چوانا نظرةً سريعة على شروق كأنها نُبْضُ رادارٍ رصد خللاً في توازن الغرفة فقد كان وجه شروق آنذاك كقماشٍ مجعد رُسمت عليه كل ملامح الدهشة والاحتراق الداخلي كأن الزمن عبث بجمالها في لحظة واحدة.

ابتسمت چوانا لنفسها وتحدّثت في سرّها كمن يُداعب فكرة ساخرة:

**”لو لم يكن هذا الحشد هنا لأتت وصرعتني بصفعةٍ على وجهي. أجل… تلك هي الغيرة حين تستعر في صدور النساء فتحوّل أعذب القلوب إلى جمرٍ لئيم.”**

تظاهرت چوانا بأنها لم تفهم ما قرأته للتوّ في قسمات شروق ثم تحرّكت نحوها بخطواتٍ مفعمة بالنعومة والمرح وخلف ابتسامتها تكمن أنيابُ حربٍ ناعمة.

**”عيد ميلاد سعيد يا شروق!”** قالتها چوانا بصوتٍ مخملي يشبه خرير نهرٍ يُخفي تحته تيارًا جارفًا ومن ثم أضافت:

**”لماذا تبدين حزينة هكذا؟ هل هناك ما يُقلقك؟”**

كان صوت چوانا بالنسبة لشروق كاحتكاك سكين حادّة بلوح زجاج يُشعل الأعصاب ويثير الاشمئزاز فقد بدا لها هذا الصوت مُتعمَّدًا كأن چوانا تعرف تمامًا أي وترٍ تضغط عليه.

رسمت شروق على وجهها قناعًا من ابتسامة باهتة محاولة أن تستجمع ما تبقّى من رباطة جأشها، وقالت:

**”أنا بخير.”**

لكن الكلمة خرجت منها مثل حشرجة صوت مُضغ بالمرارة قبل أن يُلفظ.

لم تترك لها چوانا فرصة لتلتقط أنفاسها بل أكملت بنفس الابتسامة الهادئة التي كانت تخفي خلفها ابتهاجًا داخليًا لا يُوصَف:

**”سعيدةٌ بسماع ذلك يا شروق.”**

ثم خفضت بصرها إلى جسدها وأشارت بإصبعها بخفة إلى الفستان الذي ترتديه وقالت وهي تلتفت نصف التفاتة:

**”أوه انظري إلى هذا الفستان الذي أعرتِني إياه… أليس رائعًا؟! إنه… ملائم تمامًا!”**

كان التشديد على كلمة “ملائم تمامًا” كطلقات ناعمة أُطلقت من مسدسٍ مغطى بالصمت… وفي داخل شروق بدأت نيران الغيظ تتراقص… وأخذت نبضاتها تتسارع كأن قلبها يُقرع طبول حرب… أسنانها كانت تضغط على بعضها حتى شعرت بأن فكها سيتفتّت من الحقد وهمست لنفسها بجمرٍ يشتعل:

**”إنها تفعل ذلك عمدًا… هذه اللعينة تعرف كيف تجرّني إلى حافة الانفجار!”**

فتحت فمها لتقول شيئًا… أي شيء كأنها تحاول قذف الحمم المتراكمة لكن الكلمات لم تخرج فقد خانها جسدها قبل لسانها.

**”أنتِ…”**

لم تُكمل… وفي لحظة خاطفة اختفى الضوء من عينيها وهوا جسدها كدمية قُطعت خيوطها فجأة.

**”أوه… لا… شروق!”** صرخت چوانا وهي تمدّ يديها نحوها محاولة الإمساك بها قبل أن ترتطم بالأرض لكن الوقت قد جرفها بعيدًا إذ ارتطم جسد شروق بالأرضية الرخامية بصوتٍ مدوٍّ كأن الصمت نفسه تهشّم.

وفي طرفة عين تجمّدت القاعة وذُهل الجميع بينما ظلّت چوانا جاثمة إلى حوارها تفتح عينيها بدهشة حقيقية لا تصنع فيها. الرواية كاملة من هنا

لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى قناة التليجرام

























 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top