رواية هروب دمية من اتحاد معذب كامله جميع الفصول (عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة الفصل 48)

عشق لا يضاهى

الفصل 48 

لماذا لم أرَ له مثيلًا من قبل؟ سؤال تردد بعقل كوثر وتمتمت به شفاهها وهي تراقب القادم من الظل كأن العتمة نفسها أنجبت رجلاً من صلبها، رجلًا يتنفس الغموض كما يتنفس الهواء. 

بصوت هادئ لكنه مشحون بيقينٍ لا يقبل التشكيك قال زكريا: 

“السيد رامي… لا يظهر إلا حين يكون الخطر محدقًا بأمي.”

نظرت إليه كوثر بعينين تضيقان قليلًا كأنها تزن كلماته في ميزان المنطق، ثم عقّبت بصوتٍ منخفض لكنه ثابت: 

“لم يكن الأمر مفاجئًا، حين كنّا بالخارج سمعتُ أن لديك حارسًا شخصيًا، لكنني لم أره قط.”

كانت تعرف كيف يبدو الحراس الشخصيون، عاشرت وجودهم كما يعاشر الإنسان ظلّه.

لكن هذا الرجل… لم يكن ظلًا بل كان أشبه بسرابٍ يتجلى حينما تستدعيه الضرورة ثم يتلاشى كما لو أنه لم يكن. 

أما كارم بمكانته التي تُشبه صخرةً تُلقى في بحيرةٍ راكدة فتثير الأمواج حولها فقد فرض على عائلة سيرين حماية غير مرئية لكنها قوية كإيمانٍ راسخ لا يتزعزع. 

مرّت عشر دقائق ثم انشقّ الصمت كما تنشقّ السماء عند البرق وانفتح الباب على مصراعيه.

دخل رامي كأن الهواء نفسه انحنى احترامًا لوصوله.

مشى بخطواتٍ محسوبة، صلبة لكن بلا صخب، هادئة لكن بلا ضعف كالنصل حين يُسحب من غمده في سكون الليل. 

شعرت كوثر بأنفاسها تتعثر كأن الهواء قد اختنق برئتيها فجأة واتسعت عيناها بانبهارٍ لم تستطع إخفاءه: 

“يا له من رجل…” 

رمقها زكريا بنظرة جانبية قبل أن يمدّ لها منديلًا بابتسامة خفيفة ذات مغزى: 

“امسحي فمك يا أميرة الروايات الرومانسية.”

حاولت كوثر أن تبدو متماسكة لكن سيرين التي تعرفها كما تعرف كفّ يدها لم تنخدع بالمظاهر، فكوثر لم تكن من النوع الذي ينجرف خلف رجلٍ لمجرد وسامته، فهي تعرف جيداظ كيف تحمي قلبها ربما أكثر مما ينبغي… 

ذات يوم أعطت كوثر قلبها لرجلٍ لم يُقدّرها وحين انكسرت أقسمت أن تغلق عليه وأن تضعه في صندوقٍ لا مفتاح له رافضةً الحب، رافضةً الزواج، حتى وهي تقترب من عامها السابع والعشرين. 

**”ادخل يا رامي، هذه صديقتي كوكي ولا يوجد أحدٌ هنا غيرنا.” قالتها سيرين وهي تشير إلى الداخل. 

لم يجب رامي لكنه ألقى نظرة سريعة نظرة رجلٍ لا يرى المكان كغرفةٍ عادية بل كمساحةٍ ينبغي تحليلها كخشبة مسرحٍ لمسرحية غير مرئية. 

تكلم زكريا بلطفٍ متعمَّد: 

“سيد رامي، غدًا عطلة… ما رأيك أن تتناول معنا بعض البسكويت؟” 

لم تتغير ملامح رامي لكنها بدت وكأنها تراخت قليلًا ثم أجاب بصوتٍ رتيب لكنه مغموسٌ بالحزم: 

“لا، شكرًا لك.”

بينما سيرين التي اعتادت على حدود رامي التي لا يسمح لأحدٍ بتجاوزها لم تُلحّ لكنها التقطت بضعة قطع من البسكويت وناولتها له بابتسامة هادئة: 

“عطلة سعيدة.”

تردد لبرهة كأنه يقيس ما وراء الابتسامة ثم مدّ يده وأخذ الحزمة وقال بصوتٍ خافت لكنه عميق: 

“شكرًا لك.”

ثم استدار ورحل تاركًا خلفه موجةً من الصمت المشوب بالتساؤلات، صمتٌ لم يكن عاديًا بل كأن المكان نفسه كان يستمع إلى وقع خطواته. 

تأملت كوثر الفراغ الذي كان يملأه قبل لحظات ثم علّقت ببطء كأنها تكشف شيئًا خفيًا: 

“لا يبدو كحارسٍ شخصي.” 

سألتها سيرين بفضولٍ مدروس: 

“لماذا تقولين ذلك؟”

أجابت كوثر وعيناها لا تزالان معلقتين بالباب الذي غادر منه:
 
“مجرد شعور… لا أعرف كيف أفسّره.”

لكن سيرين التي عاشت تحت حمايته لسنوات لم تكن غافلة عن ذلك الشعور فلطالما تساءلت إن كان مجرد حارس، أم أنه شيءٌ آخر… شيءٌ لم يُكشف عنه بعد كفصلٍ لم يُكتب في رواية لم تكتمل.

اهتزّ هاتف كوثر فجأة قاطعًا خيوط الأفكار التي كانت تتشابك في عقلها كعناقيد عنب نضجت قبل أوانها.

ألقى ضوء الشاشة وهج بارد على ملامحها المتوترة وحين رأت الاسم الذي ظهر أمامها زفرت كأنما تحاول إخراج الضيق من صدرها قبل أن تضغط على زر الإجابة. 

“ماذا هناك؟” كان صوتها حادًّا يخفي تحت نبرته توترًا كاملاً. 

جاءها صوت والدها جامدًا كصخرة عتيقة لا تلتفت لأمواج البحر التي تضربها: 

“كم إنكِ حمقاء حقاً!! لم لا تجيبين على اتصالاتي؟! أنتِ تكبرين في العمر لذا رتّبت لكِ موعدًا غدًا في التاسعة صباحاً، ستلتقين بزوجكِ المستقبلي.”** 

تجمدت الأنفاس بصدرها كأن الهواء قد صار ثقيلاً يستعصي على أن تستنشقه بتمهل، وانطفأت نظراتها حتى بدت كرمادٍ بارد تبعثره الريح ثم نطقت بكلمة واحدة حملت بين حروفها طعنة رفضٍ مرير: 

“لن أذهب!”

قهقه والدها بصخبٍ لكنها لم تكن ضحكاته سوى قشرة هشة تخفي تحتها صلابة الحديد: 

“هل تظنين أنني أطلب إذنكِ؟ كل ما لديكِ الآن بفضلي! فإن كنتِ لا ترغبين في أن تُتركي بلا شيء فعليكِ أن تفعلي ما يُطلب منكِ، سواء أحببته أم كرهته ستتزوجينه… لا تخيّبي أملي!”

قبضت كوثر على هاتفها كأنها تحاول سحق الكلمات بين يديها وكأن الألم قد تحوّل إلى شيء مادي يمكن طيّه وإخفاؤه.

كانت المكالمة التي أصدرها والدها على مكبر الصوت لذا كان كل حرفٍ منها سكينًا مسمومًا وصل إلى آذان سيرين وزكريا فضرب القلق جذوره العميقة بعقليهما. 

رفعت كوثر رأسها ببطء تحاول أن تتشبث ببقايا كبريائها وقالت بصوتٍ خافت لكنه مثقل بانكسارات لا تُحصى:
 
“لكن لدي خططٌ للغد…”

لم تكن تكذب كانت قد رتّبت ليومها بعناية كأنما تحاول أن ترسم لنفسها طريقًا بعيدًا عن كل ما يُفرض عليها لكنها الآن تجد نفسها مُجبرة على تغيير المسار كما لو أنها ورقة شجر تتقاذفها الرياح دون وجهة. 

وفجأة اخترق الصمت صوت زكريا وفكرة مجنونة خطرت بباله: 

“أمي، لماذا لا تذهبين بدلًا من كوثر؟” 

اتسعت عينا كوثر بصدمة أما سيرين فبدت وكأنها تلقت للتوّ مفاجأة لم تكن تتوقعها. 

“ل… هل يمكنني؟” جاء سؤالها كهمسة تسبح فوق بحرٍ من التردد. 

شعرت كوثر وكأنه قد أُلقي إليها بطوق نجاة في اللحظة الأخيرة فتشبثت بالفكرة بشغف الغريق الذي رأى اليابسة لأول مرة منذ زمن. 

“بالطبع! لقد كنتِ في الخارج لسنوات، ولن يتعرف عليكِ أحد من هؤلاء الأثرياء.”

ترددت سيرين فهذه اللقاءات عادةً ما تُنظَّم بحيث يكون لكل طرف معلومات مسبقة عن الآخر لكنها لم تستطع تجاهل الرجاء العالق في عيني كوثر كطفلة تطلب الخلاص. 

طمأنتها كوثر سريعًا كمن يُقنع نفسه قبل أن يُقنع الآخرين: 

“لا تقلقي لقد مررتُ بهذا من قبل. نحن جميعًا أسرى اختيارات لم نصنعها ووالدي حتى لم يذكر من هو الرجل، ويمكنكِ أن تجعليه يكره اليوم الذي فكر فيه هذا الرجل في الارتباط كي يأتي الرفض من جهته وننهي هذه المهزلة.”

نظر زكريا إلى سيرين بابتسامة جانبية تحمل مكرًا طفوليًا، وقال: 

“أمي، هذه فرصة نادرة، من يدري؟ ربما يعجبكِ الرجل، وحينها… قد نحصل أنا ونوح على أب!” 

ارتفع حاجبا سيرين بدهشة بينما انفجرت كوثر في ضحكة سريعة لم تدم طويلًا لكنها حملت في طياتها استراحة قصيرة من ثقل الواقع.

أما سيرين فتمتمت لنفسها بتهكم ممزوجة بدهشة: 

“وهل يمكن أن يكون القدر بهذه السخرية؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top