بعد انتهاء إجازة نصف العام، فغداً يجب عليه العودة إلى السكن الخاص بطلبة الكلية العسكرية، ويريد منها وعداً بانتظاره، فهو يعشقها حتى النخاع، يريدها بحياته زوجة وأم لأولاده منها، هي ولا أحد غيرها.
كان يقف بانتظارها في مكان منزوي خلف منزلها، فلابد من حسم هذا الأمر، فكلما حاول التحدث إليها تراوغه، وتتحج بمذاكرتها.
وعندما استمع إلى وقع أقدام تقترب، أطل برأسه من خلف الحائط المتواري به عن الأنظار، وعندما لمحها أسرع إليها، يقبض على معصمها وهي ترفع يدها لتدق بوابة العقار؛ ليفتح لها حارس البناية، ولكنه سحبها خلفه قبل أن تلمس قبضتها الباب.
توارى بها حيث كان يختبأ، وهو يدفعها إلى الحائط بخفة، يستند بكفه على جدار الحائط خلفها يحاصرها، وعينيه تلمع بعشقه لها، يقول بنبرة يتخللها اليأس، فقد أضناه الهوى، وهو منذ أن عرف قلبه معنى الحب وهو واقع لها:
-“سوزان” لم تتهربين مني؟!
“سوزان” بارتباك، هي أيضاً تعشقه ولكن تجاهد هذا الحب، وهو يعلم أنها مازالت صغيرة، كما أن لديها أحلام وطموحات تريد تحقيقها:
-عم تتحدث “أريان”؟! أنا لا أفهمك.
رفع راحة يده الأخرى يحط بها على جانب واجهها، وسبابته تتلمس خدها الوردي برقة، قائلاً:
-“سوزان”، أعشقكِ “سوزان”، لِمَ تتهربين مني؟!
أسبلت جفونها، وأطرقت رأسها، وقد بدأ دفء مشاعره يتسلل إليها، وتلك اليد المداعبة، نسجت بينهما خيوط من التواصل الحسي والجسدي تجذب كليهما إلى الآخر.
“سوزان”، وهي تتحشى النظر إليه فحتماً سيؤثر عليها، دون شيء هي منجذبة إليه.
-لِمَ أتهرب منك؟! ما من شيء بيننا يدعوك إلى قول هذا.
قلب أحدهم هوى، ولكنه لازال يقاوم.
كوب وجهها بين يديه، وصوته بدأ في التلاشي، وهو يستميلها:
-لا “سوزان” بحق عمر قضيته جوارك، لا تفعلي هذا بي، سأموت قهراً “سوزان”، أريد فقط كلمة واحدة، أمل ولو بسيط؛ لأعيش عليه.
“سوزان” بضيق، فقد بدأ يستحوذ عليها:
-يا الله لِمَ تصعب الأمور هكذا “أريان”؟! أنت صديقي، الحب تغيره المواقف، وتبدله الأيام، لكن صداقتنا أبداً لن تموت.
هبطت راحتيه إلى كتفيها يهزها بقوة، وهو يقول بصوت مختنق:
-حدثيني وأنت تنظري إليَّ، واجهيني، انظري في عيناي وقولي لا أحبك “أريان”.
“سوزان” وقد آلمتها حالته، فهي تحبه، ولكن طموحها يحول دون الإلتزام بوعد كهذا، فحلمها أن تصبح عارضة أزياء شهيرة، وها قد دنت من حلمها.
فبالأمس جاءها عرض من إحدى الشركات الكبرى لتجارة مستحضرات التجميل؛ لتصبح واجهة لدعايتهم، فتلك الخطوة ستقربها حتماً من تحقيق هذا الحلم، حلم الشهرة والأضواء.
أجابته بدبلوماسية:
-لا، “أريان” من قال أنني لا أحبك، لكنني…….
بتر جملتها، وهو يرفع سبابته يغلق شفاهها، فهذا يكفيه، ولا يريد الاستماع إلى شيء آخر من شأنه أن يكدر صفو تلك اللحظة، فعشقه لها تخطى كل الحدود منذ أن كانا طفلين يلعبان في الحديقة الصغيرة الفاصلة بين بنايتيهما.
قال وقد أشرق وجهه ببارقة أمل:
-كفى “سو”، لا أريد سماع المزيد، القليل منك يكفيني.
زفر أنفاسه براحة، وآهة شوق حارقة اعتملت بصدره، وخرجت من بين شفتيه، تداعب رموشها الكثيفة، وهو يضع سبابته أسفل ذقنها يرفع رأسها؛ لتتقابل العيون، إحداها شغوفة، والأخرى يشوبها الحيرة ولكن يسكنها العشق.
-آآآه، “سو” أدمنتك، فأصبحت أسير نظرات عينيك الخجولتين، ولونهما العسلي الصافي يسكرني، استحلفك بقلبي، أسيرك، ألا تبخلي عليَّ برؤياك.
كلماته المعسولة خرجت من أعماق قلبه تعرف وجهتها، وتلك الهالة التي أحاطها بها سلبت لبها،
فأومأت برأسها في إيجاب، وهو يأسر عينيها بنظراته العاشقة، وإبهامه يداعب شفتيها برقة، وما إن أومأت بطاعة، وهي تتأمل ملامحه بتيه، حتى لحت عليه رغبة باستبدال إبهامه بشفتيه.
شفاهها الممتلئة بلونهما الوردي، وملمسها الناعم الطري أسفل إبهامه، يثير حواسه يرغبها، رغبة نابعة من إخلاصه في حبها، وعقله يسأله التأني والرشاد، فلتوه حصل منها على اعتراف غير كامل بالحب، ولكنه يكفيه مؤقتاً.
أي تصرف متهور منه سيرجأه مائة خطوة إلى الخلف، لا يريد إخافتها، فهي مازالت صغيرة، لا تعرف كيف تجاريه في عشقه لها، جاهد حتى لا يجذبها إلى أحضانه؛ لينعم بدفء جسدها.
وهي تاهت به، بكلماته، برقته، قناعته بأي شيء تقدمه له، عشقه أرضى غرورها، وحرك تلك الأنثى بأعماقها، وسيطرت عليها مشاعره التي انتقلت إليها، وكأنها أصيبت بعدوى العشق.
أرادت استيقاف سحر تلك اللحظة، فهمست باسمه، ترغب في استأذنه الرحيل؛ كي تعود إلى منزلها.
“سوزان”:
-“أريان”.
“أريان” بهيام:
-يالا سعادة “أريان”؛ عند سماعه لحروف اسمه تخرج من بين شفتيكي.
“سوزان”:
-“أريان” يجب أن أرحل، فقد يرانا أحد في هذا المكان المظلم.
“أريان” برجاء:
-أبقي قليلاً، فغداً موعد عودتي إلى السكن، ولن أتمكن من رؤيتك قبل ثلاثة أشهر.
رفعت كفها لتدفعه بعيداً بلين؛ حتى تستطع المغادرة، ولكنه قبض على راحتها يرفعها إلى شفتيه يلثم باطنه بقبلة رقيقة، وحط به على وجنته يلامس به شعيرات ذقنه النامية.
“أريان”:
-أحبك “سوزان” كما لم أفعل من قبل، ولن أحب غيرك ما حييت.
إلى هنا وانهارت حصونها، ومن تلك التي لا يضيعها كلمات عاشق متيم محترف بالحب مثله، فبالنهاية هي الأخرى تحبه.
أغمضت عينيها، وبدأ جسدها بالارتجاف استجابة لما يبثها إياه من تناغم، ابتسم لما رآها عليه، وقد استشعر تأثيره عليها، هبطت نظراته يتأمل شفتيها المغويتين، يناجيها بصوت متهدج النبرات:
-“سوزان” حبيبتي، ارأفي بحالي ما عدت أحتمل، اعذريني حبيبتي.
قالها وهو يغرز أنامله بخصلات شعرها الأشقر، يقربها إليه، وأنفاسها العطرة تضرب وبقوة صفحة وجهه، تشعل بجسده حب ورغبة، ولم يع على حاله إلا وهو يميل بوجهه إليها.
وهو مشرف عليها بجسده، يتلمس شفاهها بخاصته، وعندما لم يجد منها رفض، ولم يقابل بالصد، التقط شفاهها بين خاصته يقبلها بحب ورقة.
لم تستطع مقاومته، فهو حقاً بارع ووسيم أيضاً، أحاط خصرها بذراعيه يدعم جسدها إليه، وهو يتعمق بقبلته، طرب قلبه وهو يستشعر ضعفها، وقلة خبرتها أكدت أنه اقتنص قبلتها الأولى، ثوانٍ وارتخى جسدها بين يديه، فرفعها إليه حتى أصبحت في مستواه يحتجزها بينه وبين الحائط خلفها، وقد أحس بحاجتهما للهواء.
بالنسبة له هي أكسچينه، ولكنه أشفق على حالها فأطلق صراح شفتيها، يستند بجبينه إلى جبهتها يتنفس أنفاسها، بينما شهقت بقوة تسحب أكبر قدر من الهواء وجسدها ينتفض بين يديه، فأحكم حصار ذراعيه حولها، يغمس وجهه بعنقها يلثمه برقة، وهي تستند بكفيها إلى كتفيه.
Back
أعاده إلى الحاضر دقات متتالية على باب المكتب، فأذن مرةً أخرى للطارق بالدخول، وكان ذاك الحارس الذي أتى منذ قليل، وأخرجه من دوامة آخر ذكرى لهما معاً.
فبعد عودته في إجازة نهاية العام، صدم عندما علم بوفاة جدتها التي كانت ترعاها بعد وفاة أمها، وقد هجرهما أبيها منذ زمن حتى قبل وفاة والدتها، وبعد بحث طويل عنها وردته أخبار أنها انتقلت للعيش مع خالتها باستراليا.
وقد رآها عدة مرات على شاشة التلفاز بعد لقائهما الأخير ببضعة سنوات، ولكنه لم يتمكن من التواصل معها، وهي حتى لم تحاول بالرغم من أنه لم يغير سكن العائلة حتى يومنا هذا.
الحارس:
-سيدي لقد انتهى الحرس من إنزال المواد والمؤن، والضابط المسئول عن التسليم ينتظر سيادتك؛ لاستلام الوارد الجديد وتوقيع أوراق الشحنة.
استقام “أريان” من مجلسه، يلتقط غطاء رأسه مرتدياً إياه في عجالة، ليس ليتمم تلك الإجراءات، ولكن شيء ما يحسه أن يركض إليها ولا يعرف ماهية هذا الشيء.
أشار إلى الحارس بأن يتبعه، وهو ممسك بتلك الأوراق وفي مقدمتها سجل الوارد وما إن وقعت عيناه على خانة مدة العقوبة، وسبب الاعتقال حتى جحظت عيناه بصدمة وكاد ينكفء على وجهه، وأنتابته حالة من الغثيان.
سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة.