عشق لا يضاهى كاملة بدون إعلانات للكاتبة أسماء حميدة الفصل 104 (هروب دمية من اتحاد معذب

عشق لا يضاهى

الفصل 104

قال ماهر بصوتٍ خافت أشبه بظلِّ صدى يتردد في غرفةٍ مهجورة:

“أعتذر يا سيدي…”

لطالما عرف ماهر حدوده كما يُعرَف السكين حدَّ نصلِه لكن هذه المرة خانه صمته فتكلم فقط خوفًا من أن يلدغ الندم قلب ظافر في وقتٍ لا ينفع فيه اللوم.

كان ماهر أكثر من مجرد مساعد؛ إنه ذاكرة صامتة لحياةٍ تغيّرت، يرى كل شيء من بعيد من دون أن يجرؤ على التورط في التفاصيل.

كان ماهر أكثر من يعلم كيف تبدّل ظافر على مرّ السنين، كيف انكمش قلبه حتى صار حصنًا محاط بسور من الحسرة والقهر…

أما سيرين فكانت الغائبة الحاضرة كأنما أخرجته من ذاكرتها لتسكن هي صدره.

لم ينطق ظافر بكلمة لوم فقط ترك الصمت يحسم الأمر ثم عاد إلى الغرفة بخطواتٍ توحي بأن الداخل غير الخارج؛ أن الرجل الذي رحل عن الباب لم يعد هو من رجع.

في تلك الأثناء كانت سيرين ممسكة بالهاتف تستمع إلى صوت كوثر الذي انساب من السماعة كما ينساب العطر من زجاجةٍ مكسورة.

“ساسو… هل التقيتِ بظافر؟” سألت كوثر بنبرة يختلط فيها القلق بالريبة إذ لم تتلقَّ منها أي رد على مكالمتها الهاتفية المتوالية في الليلة الماضية وظل صمت سيرين يصرخ بأنفاسٍ مكتومة في أذن رفيقتها.

قالت سيرين بصراحة خالية من الزخارف:

“نعم، تحدثت إليه عن الأمر بالأمس.”

“وهل كان صعبًا معكِ؟ هل ضغط عليكِ؟” سألت كوثر كأنها تخشى ما تعرفه دون أن يُقال.

“لم يفعل…”، أجابتها بتوتر، وفي اللحظة التالية لمحَت سيرين ظل ظافر يقتحم الغرفة يتقاطع وجوده مع نبرتها.

“سأتحدث إليكِ لاحقًا.”، قالتها سيرين وأغلقت الهاتف بارتباكٍ واضح.

رفع ظافر حاجبه وسأل، فكانت نبرته تحمل من الفضول أكثر مما تحتمل من الغيرة:

“من المتصل؟”

أجابته على مضض:

“كوثر… صديقتي.”

ثم وقفت كأن في جسدها اضطرابًا لم تعرف له اسماً وقالت دون مواربة:

“أين نوح؟ أريد أن أراه… هو طفل مريض يحتاج إلى رعاية… وإلى أمّه.”

نظر إليها ظافر بعينٍ لطالما لم تستطع أن تقرأها بسهولة، بينما قال ببرود مغطى بالحرير:

“هو بخير، ويقيم في مكان آمن كما يحيط به فريق طبي متخصص.”

لكن نبرته كانت أوضح من كلماته؛ لم يكن سيسمح لها برؤيته.

صرخت بصوتٍ اختنق في حنجرتها قبل أن يُولد:

“نوح… إنه ابني! لي الحق في رؤيته!”

لكنها ما لبثت أن تراجعت داخليًا، عرفت أن لا جدوى من التوسل لرجلٍ مثله إذا ما قرر أن يغلق الباب… فقد يغلق قلبه معه أيضًا.

الهاجس الحقيقي الذي أرعبها لم يكن في كلماته، بل في ما قد يكتشفه إن أصرّ على إجراء فحص الحمض النووي لنوح.

إذا عرف… إذا علم… فكل شيء سينهار.

اقترب منها ظافر فجأة، وعينيه كالعدسة التي تكشف زيف الأقنعة:

“سأدعكِ تريه… إن بقيتِ هنا، إن كنتِ راضية بالبقاء، هل لديكِ شيء آخر تقولينه؟”

نظرت إليه في حيرة كأنما الكلمات تهرب منها والحيرة التي تراكمت في صدرها انفجرت في عينيها.

تابع ظافر بصوتٍ فيه من الهدوء ما يخيف أكثر من الغضب:

“أين كنتِ كل هذه السنوات؟ ماذا كنتِ تفعلين؟ ولماذا الآن؟ لماذا ظهرتِ فجأة في المزاد؟ ولماذا تعملين مع مجموعة نصران؟”

ثم أردف كمن يكشف ورقة أخيرة على طاولة مشتعلة:

“أنا لا أؤمن بالصدف يا سيرين… وغالبًا… الكذبة الواحدة تحتاج إلى عشر أكاذيب أخرى حتى تستمر في التنفس.”

قالت سيرين بصوتٍ أشبه بالارتجاف كوتر كمان تائه في لحنٍ حزين:

“أخبرتُك أنني أريد البدء من جديد… أما عن سبب عودتي…”

رفعت عينيها إليه لتتلاقى نظرتها الشفافة بأعينه التي لطالما كانت كالبحر؛ عميقة، هادئة، ومخيفة في آن.

“هل كنتَ لتصدقني لو قلتُ لك إنني لم أستطع أن أُطفئ حريق الماضي داخلي؟ أنني لم أستطع أن أقبل النهاية بهذه القسوة… أن كل ما أعطيتُه لم يُزهر شيئًا؟ عدتُ فقط… لأرى هل بقي فيك شيءٌ من الرجل الذي كنتُ أحبه؟ هل تغيرتَ؟”

كانت كلماتها كسكين من البلاغة تمضي في صمتها أعمق من أي صراخ.

ظنّت سيرين لوهلةٍ أن ظافر سيقبل هذا التفسير؛ ولكن كيف لرجلٍ مثله، مغرورٌ بثباته أن يتصور أنها قد تُحب غيره أو تتخلى عنه؟ رجلٌ اعتاد أن تكون النساء ظلالًا تدور في فلكه لا شمسًا تغيب عنه.

نظر إليها ظافر نظرة من يحاول تفكيك شفرة، لا امرأة، نظرة رجل لا يقرأ المشاعر بل يستنطقها.

“هل هذا كل شيء؟” سأل كأنما يحاول أن يفضح ما لم يُقال.

“نعم.” أومأت برأسها وكأنها تسلم راية الحقيقة لتضيع في بحر ظنونه.

لكن الحقيقة لم تكن في الكلمات بل في نظرتها، لم تكن نبرة صوتها ما أثقل صدره، بل تلك العيون… تلك النظرة التي لا تحمل كرهًا، لا سخطًا، لا حتى عتابًا… فقط فراغٌ مخيف… كأنها تحبه دون أمل أو لم تعد تراه كما كان.

في عالم المال والألاعيب اعتاد ظافر أن يكشف الكذب من بين سطور العقود وأن يستشف الخيانة من بين حروف المجاملات لكن أمام عيني سيرين تعطّلت كل أدواته… لم يرَ كذبًا ولم يشعر بالصدق… فقط ارتباك خفي كأن الروح أمامه كانت تخبئ شيئًا أكبر من الكلمات.

انقبض حلقه كأن هواء الغرفة صار سُمًّا ثم قال بنبرة حاول أن يغلفها بالهدوء:

“فليدفن الماضي في قبره… من الآن فصاعدًا، لنحاول أن نعيش حياةً طيبة.”

ثم استدار ورحل دون أن ينظر إلى الوراء.

كان يعرف في قرارة نفسه أنه يكذب على نفسه وإنها إن خانته فعلاً لن يقدر على مسامحتها بل سيذيقها العذاب ألواناً، لكنه اختار هذا الكذب لأن الحقيقة ربما ستكون أكثر مما يستطيع تحمّله.

رغم كل شيء لم يُقيّد حريتها.. كانت حرة كطائر جريح خرج من القفص لا يعرف إن كان سيعود إليه طوعًا أو يُقتل في الهواء.

حين خرجت سيرين من القصر تحركت سيارة سوداء من عتمة الظلال كأنها كانت تنتظر منذ زمن.

فتح رامي نافذته وعلى وجهه ارتسمت ملامح قلق لم يعرف له اسماً:

– “الآنسة تهامي… هل أنتِ بخير؟”

كان صمتها دليلاً على كمّ الأسئلة التي لم تُطرح فالليلة الماضية تعطلت أجهزة التنصت وانقطعت كل خيوط المتابعة، حينها شعر رامي كمن أضاعها في صحراء لا نهائية.

أومأت برأسها بصوتٍ أقرب للنسيم الخافت:

“نعم، أنا بخير.”

– “هل نعود إلى قصر السيد كارم؟”

أجابته دون تردد:

“لا… خذني إلى منزل كوثر.”

“حسنًا.”
شغّل رامي السيارة وانطلق ببطء كمن يحاول ألا يُوقظ الجرح في صدر الراكبة.

جلست سيرين تتأمل الطريق من خلف الزجاج لكن عينيها لم تريا ما خلفه، بل ما حدث هناك.. في قصره … في تلك الليلة… حيث كانت الكلمة أخطر من السكين والنظرة أبلغ من ألف حوار.

كان عقلها يضجّ بأسئلة مؤجلة وذكريات لم تأخذ حقها من الألم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top