عشق لا يضاهي أسماء حميدة الفصل الخامس والثلاثون

عشق لا يضاهى

الفصل 35

انفتح الباب على مشهدٍ أشبه بلوحة مرسومة بريشة الألم.. كانت سيرين مرتدية ثوب نومها الحريري متكورة على حالها في إحدى زوايا الحمام ومياه الدش ما زالت تنهمر بلا توقف تبلل خصلات شعرها وتلتصق بثنايا جسدها المرتجف… ذراعيها وساقيها كانتا مرصّعتين بخدوش حمراء كشقوق في جدار هشّ وكأن جسدها يروي قصة صراعٍ صامت.

بخطوات سريعة اندفع رامي نحوها يغلق الماء بيدٍ ثابتة ثم التقط رداء الحمام وألقاه برفقٍ فوق جسدها المرتعش يلفها بأمانٍ افتقدته طويلًا. 

انحنى رامي قليلًا، وقال بصوت يحمل قلقًا حقيقياً رغم نبرته القوية: 

“هل أنتِ بخير؟” 

لكن الصوت رغم حدّته بدا كهمسٍ ضائع وسط دوامة الدوار التي سحبت سيرين إلى عالمٍ رمادي.

أغمضت عينيها لثوانٍ تحاول استجماع شتات نفسها ثم فتحتها ببطء، كانت نظراتها غائمة كسماءٍ توشك على المطر وتمتمت بصوت بالكاد يُسمع:

“أنا بخير…” 

لكن رامي لم يقتنع فمدّ يده إليها بحزم:

“سآخذكِ إلى المستشفى.” 

ارتعش جسدها للحظة قبل أن تستعيد قوتها فجأة وتتفادى يده، عضّت على شفتيها بقوة تحبس صرخةً عالقة في حلقها، ثم همست بلهجة قاطعة: 

“لا.” 

حدّق فيها رامي بتمعن مشوب بالدهشة لكنه لم يقاطعها فأكملت بصوت مهزوز وهي تجاهد لإبقاء أسرارها في مأمن:
 
“كل المستشفيات في المدينة تحت سيطرة عائلة طارق… وهو يعلم بالفعل أنني عدت… وإذا اكتشف أنني تناولتُ شيئًا فسيخبر ظافر بلا شك… وإذا علم ظافر أن النبيذ لم يكن نظيفًا فسينهار كل شيء ولن أتمكن من الاقتراب منه مجددًا…” 

تعثر صوتها في آخر الكلمات وكأنها بالكاد وجدت أنفاسها لإكمالها. 

أربع سنوات… أربع سنواتٍ على زيف الموت الذي رسمته بيديها، على الخديعة التي حبكتها بخيوطٍ من الخطر.. فلولا أساليب كارم، لما تمكنت يومًا من إبعادهم عنها، لكن الآن؟ لم يعد كارم هنا… 

الآن لو دخلت المستشفى فستكون كمن يضع رأسه في فخٍّ منصوب بإتقان إذ لن تمر دقائق حتى تصل الأخبار إلى طارق وبعدها سينهار مخططها بأكمله. 

كان رامي قد لمح النبيذ المسكوب في غرفة المعيشة عندما دخل ففهم معظم القصة دون أن يحتاج إلى شرح.

زفر ببطء وتقاطع حاجباه في عبوسٍ عميق، يقول بضيق: 
“لكن جسدكِ…” 

استوقفته تقول بصوتٍ متماسك هذه المرة رغم وهنها: 

“أحضر لي بعض الثلج.” 

ظلّ يحدّق بها للحظة ثم أومأ بخفة، يجيبها:

“حسنًا.” 

اختفى في المطبخ وعاد بعد لحظاتٍ يحمل كيسًا من الثلج، ومن ثم ألقاه في حوض الاستحمام فتسرب البرد عبر الهواء وكأنه يطفئ الحريق المستعر في عروقها.

تنفست بعمق كأن روحها تغرق في بحرٍ جليدي يمنحها هدنة قصيرة من الألم. 

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى عاد رامي بمستلزمات الإسعافات الأولية، جلس على الأرض بجوارها وبدأ في تطهير الجروح بصمت دون أن ينطق بكلمة وبعد أن انتهى حملها برفق وهو يتفادى ملامسة مناطقها الأنثوية مراعياً جروحها التي توقفت عن النزف تواً. 

نظرت سيرين إلى ذلك الوجه الصارم الذي أخفى قلقًا دفينًا تحت ملامحه الحادة وقالت بصوتٍ يحمل في طياته امتنانًا نادرًا:

“شكرًا لك.” 

لم يرد بل اكتفى بأن نهض بهدوء ثم اتجه نحو الباب ليقف حارسًا كما اعتاد… وعيناه تراقبان الظلال وأصابعه تستعد لإرسال رسالة إلى كارم، رسالة تقول: 

“كل شيء تحت السيطرة… حتى وإن لم يكن كذلك.” 

زكريا ورغم صغر سنه إلا أنه لم يكن من النوع الذي يتجاهل الإشارات فحين قُطع الاتصال فجأة، شعر بوخزة قلق تسللت إلى صدره كأفعى تتلوى في الظلام لذا لم يتردد بل سارع على الفور بإبلاغ كارم… أما كارم فكان رجلاً لا يعرف الهواجس العابرة لكنه في هذه اللحظة تحديدًا شعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام فحاول الاتصال بسيرين لكن الهاتف ظل صامتًا كقبْر مهجور.

في هذه الأثناء ووسط هذا الغموض انقبض قلب كارم فتواصل على الفور مع رامي ذاك الشاب الذي لا يهاب اقتحام المخاطر وأمره بأن يطمئن عليها.

لم يتردد رامي لحظة بل كان كالسهم انطلق بلا تراجع وكأن العناية الإلهية اختارته ليكون المنقذ ليصل إليها في اللحظة التي كانت بحاجة فيها إلى يد تمتد وسط العتمة. 

مرّت ساعة طويلة تآكلت فيها آثار الدواء كما يتلاشى الضباب مع شروق الشمس.

وقفت سيرين أمام المرآة تتفحص وجهها الذي احتفظ ببقايا الإرهاق، ومسحت الخدوش بمرهم بارد، كما لو كانت تحاول محو آثار الليلة الماضية من جلدها وروحها معًا.

خلعَت ثوبها المثقل بالذكريات القريبة، واستبدلته بملابس جافة نظيفة كمن يسعى لارتداء حياة جديدة ثم خطت خارج الحمام حيث كان رامي لا يزال منتظرًا، صامدًا كحارس بوابة الزمن. 

تمتمت سيرين، تقول بعرفان:

“شكرًا لك على المساعدة… يمكنك أن تستريح الآن.” 

خرجت كلماتها واهنة، كشهقة ريح عابرة فرفع رامي نظره إليها يتفحصها بأعين خبير يقرأ في وجهها ما لم تنطق به ثم اكتفى بإيماءة خفيفة وهو يقول: 

“تمام.” 

لم يكن بحاجة إلى كلمات إضافية كانت عيناه تتحدث ونظراتها المرتبكة تجيب.

استدار بعدها وغادر، تاركًا وراءه صمتًا مشحونًا بالحلقات المفقودة. 

 

حين أغلقت سيرين الباب خلفه شعرت بثقل الوقت وكأن الليلة قد طالت أكثر مما ينبغي.

جلست بوهن على طرف السرير، ومن ثم التقطت هاتفها وأرسلت رسالة صوتية إلى فاطمة والآخرين تخبرهم أنها بخير… أو على الأقل، تحاول أن تقنع نفسها بذلك.

ليلةٌ بلا نوم… 

عاد ظافر إلى قصره لكن النوم كان أبعد ما يكون عن جفنيه، وقف على الشرفة حيث كان الليل قد أرخى ستائره يلف المدينة بعباءته الداكنة.

أشعل سيجارة وسحب منها نفسًا عميقًا كأنه يحاول أن يبدد ضجيج أفكاره مع الدخان المتصاعد لكن الأفكار كانت أشرس من أن تُطمس، لِم لا وطيف سيرين أخذ يتجسد أمامه تحتل زوايا عقله بشراسة، خصرها النحيل، ملامحها التي تضيء في ذاكرته كوميض البرق، تلك العيون التي تحمل في عمقها لغزًا لم يستطع فك شفرته بعد.

تململ وهو يشعر بعطش غريب ليس عطش الماء بل ذلك العطش الذي لا يُروى الذي يسري في العروق كحريقٍ صامت. 

لم يدرك كم مضى من الوقت حتى أحس بسخونةٍ مفاجئة، تطلع إلى أصابعه ليجد السيجارة قد احترقت حتى بلغت جلده وكأنها تعيده عنوة إلى الواقع.

زمجر في ضيق يسب نجواها تلك التي أرقت عليه صفو لياليه ثم ألقى بقايا لفافته بعيدًا، وهو يلعن هذه العذابات التي أيقظتها سيرين في قلبه. 

صباحٌ ثقيل… 

مع أول خيوط الصباح توجه ظافر إلى مقر شركته، يجلس خلف مكتبه الفخم لكنه لم يكن هناك حقًا كان جسده فقط هو الذي استقر على مقعده بينما عقله لا يزال يسبح في بحار أفكاره المتلاطمة عنها. 

دخل ماهر يحمل ملفاته المعتادة وبدأ يسرد التقارير بصوته الرتيب لكن ظافر كان يسمعه وكأنه مجرد صدى بعيد بلا معنى.

فجأة قطع الصمت بسؤالٍ باغت ماهر: 

— “هل أتت سيرين؟” 

توقف ماهر للحظة ثم هز رأسه بنفي وقال بنبرة خافتة: 

— “سمعتُ أنها مريضة لذا لن تكون هنا اليوم.” 

قبض ظافر على حافة مكتبه وكأن الكلمات أثارت داخله شيئًا لا يريد الاعتراف به.

صمَتَ لحظة، ثم قال بصوتٍ قاطع:

— “راقبها. لا أريد أي مفاجآت، لا أرغب في أن تلقي على مسامعي لقد رحلت ولا أعلم إلى أين، لن ترحل أسمعت؟! لن أدعها ترحل” 

— “نعم، سيدي سمعت.” 

استدار ماهر ليغادر لكنه لم يكد يصل إلى الباب حتى التقى بدينا، كانت ترتدي ثوبًا فاخرًا وكأنها خرجت لتوها من إحدى المجلات الراقية عطرها يسبقه بخطوة.

رفعت دينا حاجبها بفضول، ثم سألته بصوتٍ ناعم لكنه يحمل سخرية خفية: 

— “السيد ماهر، من هو هذا الشخص الذي لا ينبغي له أن يرحل؟” 

تطلعت إليه بعينين تلمعان بدهاء تنتظر إجابته، بينما في الخارج كانت الشمس تشرق ببطء لكنها لم تستطع أن تبدد الغيوم التي تجمعت داخل قلب ظافر…

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top