الفصل 21
في تمام الساعة العاشرة صباحًا، تجمعت عائلة تيمور بكل أفرادها في الفيلا الكبيرة، في مشهدٍ نابض بالحيوية والأناقة.
كان الحدث هذه المرة مختلفًا تمامًا، إذ قام بدعوتهم السيد جاد في مطعم “بريز”، ما أضفى على الوليمة طابعًا استثنائيًا نادر الحدوث. ارتدى الجميع أبهى ما لديهم من ملابس، خاصة السيدات اللواتي بدَون كأنهن أزهار متفتحة، أنيقات وساحرات، تخطف إطلالاتهن الأنظار.
غير أن الأجواء تغيرت فور دخول جنى وغادة. لم تكن ملابسهما فاخرة، ولم تظهرا بتلك الحيوية المتوقعة، وكانت عينا جنى حمراوين، منتفختين من البكاء، كأنها لم تنم طوال الليل.
صرخت روزين، والدة زَهْرَة، بلهجة ساخطة:
“غادة، ما خطبكما؟ ألا تعلمان أن صهري المستقبلي سيكون هنا اليوم؟ لماذا تظهرا بهذه الحالة البائسة؟”
كانت غادة على شفا الانهيار، تختلجها مشاعر الغيرة والحزن من الحظ الذي حظيت به روزين. ردت بغضب مكبوت:
“هو صهركِ المستقبلي، لا صهري! وما شأني به لأرتدي شيئًا أنيقًا؟”
نظرت إليها روزين بازدراء وقالت:
“جاد رجل مهم لدرجة أن لقاءه قد يغير مجرى حياتك. وها أنتِ لا تكترثين حتى بمظهرك. لا عجب أنك لا تملكين صهرًا محترمًا!”
وانطلقت تعليقات لاذعة من الحضور:
“كأنهما في جنازة، لا مناسبة احتفالية.”
“السيدة العجوز ما كان عليها أن تُعلمهم بالحفل من الأساس. يجلبون لنا العـ.ـار لا أكثر.”
“يفسدون علينا الفرح، كما لو كانوا لعـ.ـنة متحركة!”
تحولت جنى وغادة إلى مركز الانتقاد، كأن وجودهما بحد ذاته جريمـ.ـة لا تُغتفر. بدا أن الجميع يتودد إلى روزين، ظنًا أن علاقتها بصهرها جاد قد تكون مفتاحًا لمستقبل مشرق لهم جميعًا.
كانت غادة شبه منهارة، معروفة بعنادها، لكنها لم تجد ما تقوله في تلك اللحظة.
وسط هذا الضجيج، خرجت السيدة العجوز، تمسك بيد زَهْرَة وكأنها تمسك بجوهرة ثمينة. ساد الصمت المكان.
كان واضحًا أن زَهْرَة أصبحت الحفيدة الأقرب إلى قلبها.
عند وصولها إلى القاعة، ابتسمت السيدة العجوز بفخر وقالت:
“جاد، خطيب زَهْرَة، هو الابن المدلل لعائلة كارم. ويُشرفنا أن نستضيفه اليوم. آمل من الجميع أن يتحلى بالرزانة، ولا يحرج اسم عائلة تيمور. هل هذا واضح؟”
“نعم سيدتي!” أجاب الجميع بصوت واحد.
ثم وجهت نظرها إلى جنى وقالت بحزم:
“تعالي إليّ يا جنى.”
اقتربت جنى منها برأس منخفض وخطى متثاقلة.
نظرت إليها العجوز بعين حزينة وقالت:
“ما هذا المظهر يا جنى؟ حتى لو لم ترغبي بعائلة وانِس، فلا يصعب عليكِ الظفر بعائلة ثرية أخرى. لماذا ما زلتِ متمسكة برائد؟ لا يجلب سوى العـ.ـار!”
صمتت جنى، وكأن كلماتها سُرقت منها.
تابعت العجوز:
“إن كان هناك رجل مناسب، عليكِ أن تُطلقيه فورًا.”
لكن نيتها لم تكن صافية، فهي لم تكن تنطق بذلك رحمة بجنى، بل لأنها فقدت صبرها تجاه رائد، وكانت تخشى أن يورط العائلة في مشكلات جديدة.
جنى كانت على حافة الانهيار، مرهقة نفسيًا وجسديًا. يتأرجح مزاجها بين أمل خاطف ويأس غامر، كما لو أنها تُسحب إلى قاع مظلم بلا مخرج. أدركت أن استمرارها مع رائد لن يكون سوى تذكرة إلى جحيم دائم… ومع ذلك، كيف لها أن تهجره بعد أن توسلت إليه منذ أيام أن يبقى بجانبها؟
لم تعرف كيف تجيب، ولا ماذا تفعل. كانت محطّمة تمامًا.
وفجأة، انطلقت صرخة من أحدهم:
“جدتي، هناك الكثير من السيارات بالخارج!”
أجابتها السيدة العجوز بجفاء:
“لا تُحدثي ضجة! ألم تري سيارات من قبل؟”
لكن الفتاة تابعت بدهشة:
“إنها ليموزينات!”
عقدت السيدة العجوز حاجبيها، ثم أسرعت بالخروج من الفيلا، يلحق بها الجميع بخطوات مسرعة، متسائلين عما يحدث.
كان هناك نحو ستين سيارة ليموزين فاخرة مصطفة على جانبي الطريق العريض أمام الفيلا.
كل سيارة كانت تُقدّر قيمتها بالملايين، في مشهد أقرب إلى معرض مترف للسيارات الفارهة.
وقف أفراد عائلة تيمور مذهولين، وقد فغرت أفواههم وانفتحت أعينهم بدهشة، كأنهم في حلمٍ يصعب تصديقه.
وبينما ما زال الصمت يخيّم عليهم من هول المفاجأة، ترجل سائق أنيق من سيارة “بورش” كانت في مقدمة الركب. كان يرتدي بدلة سوداء وقفازات بيضاء، ونظر إلى الجمع الحائر وسأل:
“معذرة، هل هذه عائلة تيمور؟”
تقدمت السيدة العجوز بخطى ثابتة وقالت، “نعم، ما الأمر؟”
أجاب السائق بلباقة، “لدينا أوامر بإحضار عائلة تيمور إلى مطعم بريز.”
أفاق الحضور من دهشتهم، وتحوّل الذهول إلى حماسة. عمّت الهمهمات السعيدة والابتسامات الواسعة.
قال أحدهم، “يا له من كرم! إرسال هذا الموكب الفخم لمجرد دعوة!”
وأضاف آخر، “إن كان هذا استقباله قبل الزواج، فماذا عساه أن يقدّم بعد الزواج؟”
علّقت السيدة العجوز بإعجاب وهي تراقب السيارات، “يا له من رجل، هذا السيد جاد!”
ارتفعت أصوات الثناء والمديح، وكان وجه زَهْرَة يلمع من الفخر والسرور، وقد شعرت أنها تعيش لحظة لا تُنسى في حياتها.
حتى والداها، ووالدتها، لم يتمكنا من كبح ابتسامتهما العريضة. كانا في قمة السعادة، وكأن الشرف كله قد تجسد في هذه اللحظة.
قاطعت السيدة العجوز الحماس العام قائلة: “لا نضيع الوقت. لنركب السيارات فورًا.”
ركب الجميع السيارات الفخمة، وانطلق موكب الليموزين المهيب نحو مطعم بريز.
في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا، وصل جاد إلى مطعم بريز.
رغم أن الوقت لم يكن وقت الوجبات، إلا أن المطعم كان يعج بالضيوف المنتظرين.
دخل جاد مباشرة دون انتظار، كما يليق بمكانته.
توجه إلى مدير المطعم، وقال:
“لقد حجزت خمس عشرة طاولة كبيرة، هل كل شيء جاهز؟”
أجابه المدير مبتسمًا، “بالطبع، لقد رتّبنا كل شيء كما طلبت. الطاولات محجوزة ومصطفّة بجانب بعضها البعض.”
قال جاد، “أحضر لي قائمة الطعام، أود أن أبدأ بالطلب.”
لكن وقبل أن يناوله القائمة، تلقى المدير مكالمة هاتفية.
ما إن استمع للطرف الآخر، حتى تجهم وجهه فجأة. ثم قال بقلق،
“سيدي، ربما من الأفضل أن تؤجل. لدينا اليوم ضيف مهم جدًا.”
ومع إصرار الطرف الآخر، قال المدير على مضض، “حسنًا، سأتصرف فورًا.”
أغلق الهاتف، ثم التفت لموظفيه وأمر بصوت عالٍ:
“أفرغوا المكان فورًا! يجب أن يُرافَق جميع الضيوف إلى الخارج، وستكون وجباتهم مجانية!”
كان الأمر كالصاعقة في سماء صافية. اندهش الجميع، وبدأت همهمات الاستغراب تملأ المكان.
بعض الضيوف تقبّلوا الأمر، لكن آخرين رفضوا المغادرة واعتبروا ذلك إهانة لهم.
فأمر المدير، “دعوا الحراس يدخلون. أخرجوا كل من يرفض المغادرة.”
اقتحم عدد من الحراس القاعة، وبدأوا بإخراج المترددين بقوة النظام والصرامة.
وقف جاد مذهولًا، ثم سأل:
“ما الذي يجري، يا وئام؟ أنا من حجز هذه الطاولات، وقد وعدت عائلة صديقتي باستضافتهم هنا.”
رد وئام بوجه متصلب، “أعتذر، لكن هذا أمر من الرئيس الكبير. يجب إخلاء المطعم قبل الظهر، دون استثناء لأي شخص.”
ازدادت حدة نبرة جاد، وقال: “لقد أعطيتني كلمتك، ألن تفي بها؟”
فأجابه وئام بصرامة: “حتى لو كان والدك هنا، لكان عليه أن يغادر. هذا قرار لا يُناقش.”
ثم أشار للحراس، “أروا السيد جاد طريق الخروج.”
اضطر جاد للخروج، وسط نظرات المتجمهرين المتفاجئة.
في الخارج، احتشدت جموع غفيرة، من ضيوف طُردوا ومن متفرجين تجمعوا لرؤية الحدث الفريد.
عند بوابة الفندق، وقف عشرات الحراس ينظمون الدخول والخروج.
بينما اصطف أكثر من مئة نادل ونادلة على جانبي المدخل، مستعدين لاستقبال ضيوف خاصين.
وفجأة، وصل موكب الليموزينات الفخمة مرة أخرى، يضيء الطريق بهالة من الهيبة والترف.
توقفت السيارات أمام مطعم بريز بانتظام مذهل، ثم نزل منها سائقوها المحترفون وفتحوا الأبواب بكل احترام.
نزل أفراد عائلة تيمور تباعًا، يستقبلهم السائقون بإجلال، بينما تعالت أصوات جميع طاقم الخدمة بصوت واحد:
“مرحبًا بكم!”
ارتجّ المكان بصداهم، وكأنما السماء نفسها تردد الترحيب.
Pingback: رواية أحبتته رغم جنونه الفصل العشرون – dreamses